كابوس أوروبا
تركز كثير من التعليقات على عودة دونالد ترامب إلى رئاسة أمريكا على تداعيات هذه العودة على البلدان العربية، ويجري التحذير من المصائب التي ستحل بشعوب وأنظمة الحكم في هذه البلدان.
وبصرف النظر عن مواقف ترامب المعادية للإسلام، ودعمه المطلق للكيان، وهي نقطة يتقاطع عندها مع الديمقراطيين، وجنوحه إلى المواجهة مع إيران، فإن المخاوف الحقيقية من سياسته الخارجية تتعلق بالأساس بالعلاقة مع أوروبا خاصة والحلفاء عامة.
يروي الصحافي الأمريكي بوب ودووارد في كتابه “الخوف” عن بدايات رئاسة ترامب قصة عن أول قرار كان ينوي ترامب اتخاذه ويتعلق بسحب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية، وقد اعتبر كبار المستشارين في البيت الأبيض أن القرار سيكون كارثة استراتيجية على أمريكا،
وقد عمدوا إلى مراوغته أكثر من مرة، وإخفاء مسودة القرار عن أنظاره حتى ينسى الأمر وذلك ما حدث فعلا، وتمثل الحادثة أبرز مثال على عمل ما يسمى الدولة العميقة الذي يتجاوز صورة المؤامرات والغرف المظلمة التي تسكنها عناصر المخابرات.
المسألة الأساسية هنا أن أهم ما حدث في فترة حكم ترامب هي التحول الكبير في علاقة أمريكا مع الحلفاء، وقد شهدت العلاقة مع أوروبا في تلك الفترة تدهورا كبيرا،
كما عانى حلف شمال الأطلسي من النزعة الانعزالية لترامب الذي فتح الباب أمام سياسة الابتزاز من خلال إرغام أعضاء الناتو على رفع مساهماتهم المالية، مع فرض مزيد من الرسوم على السلع الأوروبية تتراوح بين 10 و 20 بالمائة.
لقد كان الوصف الذي استعمله خبراء السياسة الخارجية الأمريكية لإرث ترامب هو تخريب التحالفات الأمريكية بما ألحق ضررا كبيرا بمكانة أمريكا ومصالحها، وحتى مع الاعتراف بالنجاح الاقتصادي لترامب وأهمية ما تحقق من خلال فرض بديل عن اتفاقية نافتا مع كندا والمكسيك، وثمار الحرب التجارية والتكنولوجية على الصين، فإن الإجماع حاصل على اعتبار إرث ترامب كان باهض الثمن.
في مقالة له نشرتها مجلة فورين أفيرز في عددها الأخير، يعود وزير الخارجية أنتوني بلينكن ليذكر بالحالة التي تسلمت فيها إدارة بايدن حكم أمريكا، ويفاخر بنجاح الإدارة في إعادة بناء التحالفات التي خربها ترامب، واستعادة مكانة أمريكا وتأثيرها في إدارة الشأن الدولي،
ومن الواضح أن المقالة كانت جزء من الدعاية الانتخابية الديمقراطية (نشرت إلكترونيا في الفاتح أكتوبر في أوج الحملة الانتخابية) حيث تضمنت تحذيرات مبطنة من كلفة خيارات ترامب في السياسة الخارجية.
الآن ومع عودة ترامب تعود نفس الأسئلة حول طبيعة العلاقة مع الحلفاء، ومع أوروبا خاصة، هل سيتخلى ترامب عن دعم أوكرانيا بنفس سخاء الديمقراطيين؟ ام انه سيركز الضغط على الرئيس الاوكراني وداعميه الأوروبيين للقبول بحل متفاوض عليه يقوم بالأساس على التسليم لروسيا بالاحتفاظ بأجزاء من أوكرانيا؟
فهذا الخيار، وهو الذي دعا كيسنجر إلى الأخذ به مع بداية الحرب، يبدو الطريق الوحيد لتجسيد وعد ترامب الانتخابي بإنهاء الحرب، لكن السؤال الذي يثور في المقابل هو عن موقف أوروبا في حال أخذت واشنطن هذه الوجهة.
لقد بنت إدارة بايدن على إرث ترامب رغم التقييم السلبي له، فسواء تعلق الأمر بالصين أو إيران والقضية الفلسطينية، استغل الديمقراطيون تركة ترامب لتعزيز هيمنة أمريكا، وهذا يجر إلى سؤال مركزي: ما الذي سيفعله ترامب بإرث بايدن؟
بالنسبة للعلاقة مع أوروبا تحققت مطالب ترامب القديمة عندما ارغمت حرب أوكرانيا دول الاتحاد الأوروبي على زيادة إنفاقها الدفاعي، وتحمل أعباء أكبر في تمويل الناتو ومساعدة أوكرانيا عسكريا واقتصاديا، والأهم هنا أن ترامب سيجد أوروبا أكثر ضعفا مما تركها، وأكثر اعتمادا على أمريكا، وهو ما يثير أسئلة جدية عن حدود الابتزاز الذي سيمارسه خلال السنوات الأربع القادمة،
وكيف سيكون تصور ترامب للتحالفات التي عملت إدارة بايدن على تكريسها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وكيف سيبقي على التوتر مع الصين عند مستويات تسمح بتجنب الحرب، وهو الذي وعد بإنهاء الحروب، مع الاستمرار في حربه التجارية والتكنولوجية على الصين لكبح صعودها وتعاظم دورها على المستوى العالمي.
سيلعب ترامب متحررا من حسابات السياسة هذه المرة، وسيعطي اليمين في أوروبا قوة دفع هائلة، وقد يكون هذا هو العامل الأهم في إعادة صياغة التوازنات العالمية في الفترة القادمة.
بالنسبة لفلسطين لا يملك ترامب أن يفعل أكثر من سلفه الذي جعل أمريكا مشرفة بشكل مباشر على إبادة الشعب الفلسطيني، ولن يستطيع تمرير اي صفقة لتصفية القضية وتجربته السابقة تخبر عن ذلك.
نجيب بلحيمر، صحافي و حقوقي جزائري