ها هو دونالد ترامب يعود إلى البيت الأبيض منتفخ الأوداج، بعد نجاحه في التغلّب على التحدّيات والعقبات التي وُضِعت في طريقه، فالإنجاز الذي حقّقه في معركة الانتخابات الرئاسية، الثلاثاء الماضي، لم يكن سهلاً ولا تقليدياً، وإنّما كان صعباً وغير متوقّع، خصوصاً أنه لم يفز فيها بفضل أصوات المجمع الانتخابي فحسب، مثلما حدث في انتخابات 2016، وإنّما أيضاً بأغلبية التصويت الشعبي أيضاً، وبفارق ملايين الأصوات. ولأن الحزب الجمهوري تمكّن، في الوقت نفسه، من الحصول على أغلبية مقاعد الكونغرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب)، فسيكون بمقدور ترامب السيطرة على مقاليد السلطتيَن التنفيذية والتشريعية، بل وعلى السلطات كافّة، بما في ذلك السلطة القضائية، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن غالبية قضاة المحكمة الفيدرالية العُليا هم من ذوي الميول المحافظة، ما سيمهّد الطريق أمامه للشروع فوراً في وضع أجندته السياسية، التي تتمحور حول شعار “أميركا أولاً”، موضع التنفيذ. لذا، يمكن القول إن هذه الانتخابات، بشقّيها الرئاسي والتشريعي، أوضحت أن التيّار الذي يمثّله ترامب ويتحدّث باسمه، وكذلك الحركة السياسية التي يقودها، ليسا فقاعةً ظرفيةً أفرزتها تناقضات العولمة ومخاوف الهجرة غير الشرعية، كما كان يعتقد في البداية، وإنما انعكاس لرغبةٍ مجتمعيةٍ أميركية عميقة ترفض القبول بما هو قائم أو الاستسلام له أمراً واقعاً، وتتطلّع نحو التغيير، ما يوحي بأن السياسة الأميركية قد تشهد هزّاتٍ عنيفةً على الصعيدَين الداخلي والخارجي خلال السنوات الأربع المقبلة.
لفهم معالم ما قد يطرأ من تغييرات على صعيد السياسة الخارجية الأميركية في المرحلة المقبلة، خاصّة ما يتعلّق منها بقضايا الشرق الأوسط، علينا أن نتذكر حقيقةً أساسيةً، أن ترامب (وهو رجل أعمال براغماتي أكثر منه سياسي عقائدي)، لن يهتم بقضايا السياسة الخارجية إلا في حدود تأثيرها في أوضاع الداخل، ولأنه يرى أن مكانة الولايات المتحدة في العالم تدهورت بسبب اهتمام الإدارات المتعاقبة بشؤون الآخرين أكثر من اهتمامهم بالشؤون الأميركية نفسها، ما أدّى إلى إهمال البنية الأساسية وتراجع القدرات الإنتاجية والتنافسية للولايات المتحدة، التي لن يكون بمقدورها استعادة مكانتها المفقودة إلّا إذا تمكّنت، ليس من حماية منتجاتها من السلع المنافسة فحسب، وإنما حماية مجتمعها من الهجرة العشوائية أيضاً. بعبارة أخرى، يمكن القول إن الاهتمام الرئيس لترامب خلال السنوات الأربع المقبلة سيتركّز في المقام الأول في السياسة الداخلية، وتحديداً في السبل التي يمكن للولايات المتحدة أن تسلكها لتصبح “عظيمة مرّة أخرى”. معنى ذلك أنه لن يهتمّ بقضايا السياسة الخارجية إلّا في حدود ما تؤثّر به سلباً أو إيجاباً على سياسته الداخلية. وفي سياق كهذا، يُتوقَّع أن يبادر ترامب بالسعي لوضع حدّ للحرب المشتعلة في أوكرانيا منذ أكثر من عامين ونصف العام، لأن ضلوع الولايات المتحدة فيها يؤدّي (من وجهة نظره)، إلى استنزاف الموارد الأميركية ويخدم المصالح الأوروبية أكثر ممّا يخدم المصالح الأميركية، كما يُتوقَّع أن يولي اهتماماً كبيراً (في الوقت نفسه)، بالسياسات والآليات التي يمكن أن تساعده على الحدّ من قدرات الصين التنافسية في مختلف المجالات، خصوصاً في المجال الاقتصادي، لأنه يرى في تلك القدرات مصدرَ التهديد الأساس لمختلف أنواع الطموحات الأميركية. لكن، أين يقع الشرق الأوسط في خريطة اهتمامات ترامب الخارجية، وكيف سيتعامل مع الحرب المشتعلة في جبهات عدّة في المنطقة؟
يدرك ترامب أن للولايات المتحدة مصالحَ ضخمةً في الشرق الأوسط عليه أن يحافظ عليها، وأن يدافع عنها، لكنّه يعتقد أيضاً أن معظم شعوب هذه المنطقة تعاني من التخلّف والفقر والجهل، وتنتشر فيها تيّارات فكرية وسياسية تنحو نحو التطرّف وممارسة العنف والإرهاب، وتتحكّم في مقدّراتها نظمُ حكمٍ مستبدّةٍ وفاسدةٍ تريد من الولايات المتحدة أن تقدّم لها الحماية في مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية التي تهدّد أمنها واستقرارها. ولأن بعض هذه النظم تمتلك ثروات هائلة تنزع نحو تبديدها على ملذاتها وأهوائها الشخصية، يرى ترامب أن من حقّ الولايات المتحدة أن تحصل على نصيبٍ من هذه الثروة المهدورة في مقابل تقديم خدمات الحماية والأمن لمن يطلبها من النظم الغنية (!) الدولة الوحيدة التي يعتقد ترامب أنها تستحقّ الاحترام، وأن تعامل معاملة الندّ هي إسرائيل، التي يرى فيها دولةً متقدّمةً علمياً وتكنولوجياً و”واحة الديمقراطية” في المنطقة، خصوصاً أنها تنتمي ثقافياً وحضارياً إلى الدائرة الغربية. ولأنه يمتلك عقليةً براغماتية ترفض التخندق الأيديولوجي، يرى ترامب (بصرف النظر عن ميوله الصهيونية وزواج ابنته من يهودي أميركي تربطه بالمؤسّسات الصهيونية علاقات مصلحية، وربّما أيديولوجية متينة)، أن إسرائيل الدولة الوحيدة المؤهّلة للعب دور الوكيل المعتمد والموثوق به من الولايات المتحدة. وإذا كانت تلك هي السمات العامة لرؤية ترامب للمنطقة ككل، فكيف ستنعكس هذه الرؤية على طريقته في التعامل مع قضايا المنطقة وأزماتها، خصوصاً في ظلّ الحرب المشتعلة فيها في جبهات متعدّدة، والتي تنخرط فيها بطرق وبأشكال متباينة أطرافٌ فلسطينيةٌ ولبنانيةٌ وسوريةٌ ويمنيةٌ وعراقيةٌ وإيرانيةٌ؟
الواقع أن ترامب كان يأمل أن تتمكّن إسرائيل من حسم الحرب التي تشنّها على قطاع غزّة منذ أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، قبل أن يدخل هو إلى البيت الأبيض (20 يناير/ كانون الثاني 2025)، وهذا هو المعنى الذي قصده حين خاطب نتنياهو في أثناء الحملة الانتخابية قائلاً له: “أكمل المهمّة”. ولأن نتنياهو لم يتمكّن من إكمال المهمّة وتحقيق أهداف الحرب التي حدّدها لنفسه، ليس لأن إدارة جو بايدن تخاذلت في دعمه، أو امتنعت عن مدّه بما يحتاج من مال وسلاح، أو قصرّت في تقديم غطاء سياسي دولي يحميه من المحاسبة على جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها بكلّ وحشية في حقّ الشعب الفلسطيني، ولكن لأنه عجز عن حسم معاركه ميدانياً في الجبهات كلّها، فسيكون على ترامب أن يعالج وضعاً شديد التعقيد والتشابك. ففي قطاع غزّة، صمدت حركة حماس، ومعها فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة، ولا تزال قادرةً، ليس على تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائرَ يوميةً فحسب، وإنما على مواصلة الاحتفاظ بما لديها من أسرى أيضاً، كما صمد الشعب الفلسطيني في مواجهة عمليات التدمير الشامل وجرائم التطهير العرقي والمحاولات الرامية لإجباره على النزوح القسري، وتمسّك بأرضه حتى الموت في مشهد صمود يرقى إلى حدّ الإعجاز. وفي الجبهة اللبنانية، تمكّن حزب الله من تقديم الدعم والإسناد العسكري للقطاع طوال عام، وفشلت المحاولات الرامية إلى تدميره وإخراجه من ساحة المعركة، عبر عمليات تفجير “البيجر” وأجهزة الاتصال اللاسلكي وسلسلة الاغتيالات التي طاولت قادته الكبار، وفي مقدمتهم الشهيد حسن نصر الله، كما فشلت المحاولات الرامية إلى إبعاد الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني، وها هو يعود، بعدما أعاد بناء قدراته، قوّةً مقاتلةً قادرةً على تكبيد العدو خسائرَ فادحةً في الأرواح والعتاد. وفي الجبهة اليمنية، ما زالت جماعة أنصار الله قادرةً على السيطرة على مدخل البحر الأحمر وإغلاقه في وجه السفن المتّجهة إلى إسرائيل، رغم شنّ القوات الأميركية والبريطانية غاراتٍ مكثّفةً عليها. وحين واصل نتنياهو تحرّشاته المستفزّة لإيران، خصوصاً عبر تدمير قنصليتها في دمشق واغتيال إسماعيل هنيّة في طهران، أثبتت إيران أنها قادرةً على الردّ، وشنّت هجمتَين عسكريتَين على إسرائيل، وها هي تستعدّ حالياً لتوجيه ضربة ثالثة لها. فكيف سيتعامل ترامب مع هذه الجبهات المفتوحة والمشتعلة كلّها؟
تجدر الإشارة هنا إلى أن نتنياهو لا يُخفي إعجابه بترامب وتفضيله التعامل معه، وراهن عليه، وكان أوّل المسارعين إلى تهنئته عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية فور ظهور نتائجها الأوّلية، ويتردّد أنه تعمّد تخريب محاولاتٍ كثيرةٍ رامية إلى التوصّل إلى صفقة تؤدّي إلى وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، عبر المماطلة واختلاق الأعذار، كي يتمكّن من الاستمرار في الحرب إلى ما بعد انتهاء الانتخابات الأميركية، أملاً في فوز ترامب. بل ويتردّد بقوّة في بعض الأوساط أن رفضه إبرام صفقة يعود إلى مخاوفه من أن تصبّ في صالح بايدن وتضرّ بفرص ترامب. أمّا وقد فاز ترامب، وأصبح رئيساً، فلم يعد لدى نتنياهو مانعٌ من الموافقة على إبرام صفقة يساعد بها صديقه ترامب في الظهور بمظهر الرئيس القوي القادر على إيجاد حلول سحرية لأعقد المشكلات الدولية، في مقابل التزام الأخير بتبنّي سياسةً متشدّدةً تجاه إيران.
يؤمن نتنياهو بقوّة بأن إيران تشكّل تهديداً وجودياً لإسرائيل، وبالتالي لن يتمكّن من استئصال “أذرع إيران في المنطقة”، ممثّلةً في حركتي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله وأنصار الله (الحوثيين)، وغيرها من التنظيمات في المنطقة، إلّا بقطع الرأس والعقل المفكّر، أي بتغيير النظام الإيراني نفسه، أو على الأقلّ تدمير برنامجي إيران النووي والصاروخي، وفرض عقوبات شاملة تفضي إلى انهيار النظام من الداخل. ويعود عدم ثقة نتنياهو ببايدن إلى موقف الأخير من الاتفاق الموقّع مع إيران عام 2015 بشأن برنامجها النووي وحرصه على العودة إليه. صحيح أن نتنياهو نجح في إفشال المحاولات التي بذلتها إدارة بايدن للعودة إلى هذا الاتفاق، لكن ثقته بهذه الإدارة ظلّت محدودةً منذ ذلك الحين، على الرغم ممّا قدّمته من دعم لإسرائيل عقب “طوفان الأقصى”، وتغطيتها ما أقدمت عليه كلّه من جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية ضدّ الشعب الفلسطيني. لذا يعتقد نتنياهو أن السياسية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط ستطرأ عليها تغييرات جوهرية خلال المرحلة المقبلة، وأن الخطوة الأولى في طريق “النصر المطلق” ستبدأ بعودة العقوبات الأميركية الشاملة على إيران. وتلك، في تقدير كاتب هذه السطور، مجرّد أضغاث أحلام.