التأمين الصحي في قبضة الإهمال: كارثة إنسانية تنتظر التدخل القضائي لإنقاذ المرضى
في ظل تدهور الوضع الصحي للمواطنين المصريين، تقف الهيئة العامة للتأمين الصحي في وجه المرضى، مشددة قبضتها على حقوقهم الأساسية في العلاج والتأهيل.
مرضى السكري، الذين يعانون في صمت بين دوامة المرض والمطالب اليومية التي لا تنتهي، يجدون أنفسهم أمام جدار من الإهمال والتعنت الحكومي.
في واقعة لا يمكن السكوت عليها، امتنع التأمين الصحي عن صرف وتركيب مضخة الأنسولين الضرورية لمرضى السكري، وهي خطوة يتطلبها الكثيرون من المرضى، بما في ذلك الأطفال، الذين يعانون من مرض السكري من النوع الأول.
وأصبح هؤلاء المرضى في حالة من العجز، حيث أصبحت قضية الحصول على مضخة أنسولين أو الأدوية اللازمة للبقاء على قيد الحياة حكرًا على الأحكام القضائية فقط.
معركة القضاء تفضح تقاعس الحكومة
القصة التي تُظهر فداحة الواقع المرير هي تلك التي رفعها المواطن محمد عبد العال عبد الرحمن عبد الحفيظ، والذي حمل على عاتقه مسؤولية الدفاع عن حياة ابنته فاطمة، التي تعاني من مرض السكري من النوع الأول.
فاطمة، الطفلة القاصر التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، كانت ضحية للإهمال الرسمي بعد أن رفضت الهيئة العامة للتأمين الصحي منحها المضخة التي هي في أمس الحاجة إليها، وهي مضخة الأنسولين G780، بالإضافة إلى المستلزمات الشهرية اللازمة لعلاج حالتها.
بجانب المضخة، كان هناك أيضاً حاجة ماسة لأدوية أنسولين نوفورابيد، بمعدل 30 أمبولاً شهريًا، وكذلك الكانيولات وأدوات التشريب، التي تتجاوز قدرة الأسرة المادية على توفيرها.
فاطمة، التي تحمِل كارنيه التأمين الصحي، كانت تأمل أن تجد في هذه المؤسسة الحكومية معينًا يساعدها في تجاوز معاناتها الصحية. إلا أن ما وجدته كان تعنتًا وإهمالًا غير مبرر من قبل الهيئة، ما اضطر والدها لرفع دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري، طالبًا فيها إلغاء القرار السلبي الذي اتخذته الهيئة.
التعنت الحكومي والتسويف القضائي
في دعواه، أكد الأب أن هيئته الصحية قد تقاعست عن أداء دورها المقرر بموجب القانون، الذي يلزمها بتوفير العلاج لجميع المنتسبين للتأمين الصحي، مشيرًا إلى أن قرار الهيئة كان مخالفًا للدستور المصري، الذي يضمن حق المواطنين في الرعاية الصحية والحياة. ولم تكن هذه المعركة سهلة أو خالية من التحديات.
فقد احتاج المواطنون إلى المرور عبر سلسلة من الإجراءات القانونية البطيئة والمعقدة، حيث استلزم الأمر تقديم طلبات قضائية، وانتظار طويل لحسم القضايا، مما يزيد من الأعباء المالية والنفسية التي يعاني منها المرضى وأسرهم.
في هذه الأثناء، كانت حالة فاطمة الصحية تزداد سوءًا. فالتقارير الطبية تؤكد أنها تعرضت لمضاعفات صحية خطيرة بسبب عدم استقرار مستوى السكر في الدم.
فاطمة، التي كانت تتعرض لارتفاعات وهبوطات مفاجئة في مستوى السكر، كانت في خطر دائم من الإصابة بمضاعفات خطيرة مثل الحماض الكيتوني السكري، الذي يهدد حياتها.
الطب الشرعي يفضح الواقع المرير
وحتى مع هذه المعاناة التي لا تُحتمل، أجبرت المحكمة على ندب مصلحة الطب الشرعي لفحص حالة الطفلة وتقديم تقرير مفصل عن وضعها الصحي.
وقد أثبت التقرير الطبي أن فاطمة تعاني من صعوبة كبيرة في التعامل مع حقن الأنسولين بسبب صغر سنها ورفضها التام للحقن نتيجة الألم المستمر، وهو ما يعرضها لخطر شديد إذا لم تُعطَ المضخة التي تساعدها في التحكم بمستوى السكر.
التقرير الطبي الشرعي، الذي أعدته لجنة من الأطباء المتخصصين، جاء ليؤكد حجم المأساة التي تعيشها فاطمة. حيث تبين أن والديها، رغم درجة وعيهما العالية، غير قادرين على السيطرة على الحالة بسبب عدم قدرتهم على توفير الأدوية والمستلزمات اللازمة. هذا كله وسط إصرار الهيئة على تجاهل حقوق المرضى، والتقاعس في تلبية احتياجاتهم الطبية الأساسية.
محكمة القضاء الإداري تصدر حكمًا تاريخيًا
بعد أن استمعت المحكمة إلى جميع الأطراف المعنية، وأخذت في اعتبارها التقارير الطبية، بما في ذلك تقرير الطب الشرعي، أصدرت حكمها التاريخي بإلغاء قرار الهيئة العامة للتأمين الصحي الممتنع عن صرف وتركيب مضخة الأنسولين من نوع G780 لأبنة المدعي، فاطمة،
كما ألزمت الهيئة بتوفير جميع المستلزمات الشهرية المقررة لعلاج حالتها. لم يكن الحكم مجرد انتصار للعدالة فحسب، بل كان انتصارًا للحياة ضد آلة البيروقراطية القاتلة.
المحكمة لم تكتفِ بهذا الحكم، بل ألزمت الهيئة المدعى عليها بالمصروفات القضائية، مما يعد بمثابة صفعة قوية على وجه تقاعس الحكومة، التي استمرت في تجاهل حقوق المرضى على مرّ الأشهر.
قضية تفضح فشل النظام الصحي
تأتي هذه القضية لتكشف عن واقع كارثي يعاني منه المواطنون في مصر، حيث يتعرضون للإهمال المتعمد من الجهات الحكومية التي من المفترض أن تكون حامية لصحتهم وحقوقهم.
وبالرغم من أن القضاء المصري قد أعطى الأمل للكثير من المرضى في الحصول على العلاج والكرامة، فإن الواقع يظل ملبدًا بالغيوم.
فالتأمين الصحي، وهو المرفق الذي تم إنشاؤه لتوفير الرعاية الصحية للمواطنين، تحول إلى ماكينة بيروقراطية تعمل ضد مصلحة المرضى، متجاهلة في كثير من الأحيان الحقوق الإنسانية التي يجب أن تكون في صدارة أولوياتها.