في خطوة تثير الكثير من الشكوك حول نوايا الحكومة المصرية تجاه قطاع التعدين واهتمامها بمستقبل الاقتصاد الوطني، تعتزم مصر طرح مزايدة عالمية للبحث والتنقيب عن الذهب في 200 منطقة بالصحراء الشرقية، وتُحضر وزارة البترول والثروة المعدنية لهذه المزايدة التي يُتوقع أن تتم قبل نهاية العام الحالي.
هذه المزايدة، التي تمثل فرصة ضخمة للقطاع الاقتصادي الحيوي في مصر، قد تكون خطوة فارقة لو أُحسن استغلالها، لكن للأسف الواضح هو تقاعس الحكومة عن استثمار هذه الفرص في صالح الشعب، في وقت تتزايد فيه علامات الاستفهام حول مدى جدية الدولة في مكافحة الفساد والإفراج عن الثروات الطبيعية للبلاد.
تشير التقارير إلى أن مصر لم تكتفِ فقط بتجاهل الفرص الذهبية في مجال التعدين، بل هي تواصل سلسلة من القرارات التي تبرز حجم الفساد المترسخ داخل مؤسساتها.
ففي وقت يُعلن فيه عن المزايدة العالمية للبحث عن الذهب، يظهر تعثر شديد في تحقيق الاستثمارات الموعودة والاهتمام بتطوير القطاع رغم الإمكانيات الكبيرة التي يزخر بها.
هل تُعد هذه المزايدة خطوة جادة نحو زيادة الاستثمارات؟ أم أنها مجرد حيلة جديدة لاختراق أموال جديدة لخدمة مصالح قلة من المسؤولين في السلطة؟
منذ ما يقرب من عام، أعلنت وزارة البترول عن عزمهها زيادة الاستثمارات في قطاع التعدين، خاصة في مجال الذهب. لكن الواقع أظهر غير ذلك، حيث لم تتحقق سوى نسبة ضئيلة من المستهدفات التي تم الإعلان عنها.
فمن بين الـ200 منطقة التي تفتح فيها الوزارة مزايدتها، لا يوجد ما يشير إلى أن هذه المناطق ستكون قادرة على جذب مستثمرين جادين، خاصة مع البيئة الاستثمارية التي تزداد صعوبة في مصر بسبب قوانين غير واضحة، وتضارب مصالح كبار المسؤولين الذين يتحكمون في معظم مفاصل الاقتصاد المصري.
على الرغم من الأرقام التي تُصرح بها الحكومة وتوقعات عوائد الاستثمار في قطاع التعدين، إلا أن المراجعة الدقيقة للواقع تفضح انهيارًا مستمرًا في قدرة الحكومة على تحقيق هذه الأهداف.
ففي السنوات الأخيرة، قوبل قطاع التعدين في مصر بعراقيل كبيرة تمثلت في تعنت الحكومة في تقديم التسهيلات اللازمة، وتدهور البنية التحتية التي كان من المفترض أن تدعم القطاع، ما جعل مصر تتخلف عن دول أخرى في المنطقة مثل السودان وتنزانيا التي استطاعت جذب استثمارات ضخمة في نفس المجال.
والأكثر إثارة للقلق هو أن الحكومة المصرية لم تقم بأي خطوة عملية لإصلاح بيئة العمل التي تثير القلق بالنسبة للمستثمرين الدوليين. فبالتوازي مع عجز الحكومة عن توفير ضمانات قانونية للمستثمرين، يظهر جليًا أن السلطة تستفيد من هذه الفوضى لتعزيز مصالحها الخاصة، لا سيما عبر توزيع العقود التعدينية على شركات تابعة لمقربين من دوائر السلطة. هذا الفساد الواضح الذي يسيطر على قطاع التعدين في مصر يشير إلى أن الحكومة لا تمتلك رؤية واضحة لضمان استغلال الثروات الطبيعية لصالح الشعب المصري.
من خلال هذه المزايدة التي يُخطط لها، من الممكن أن تكون الحكومة المصرية قد أضاعت فرصة تاريخية لاستغلال صخور الصحراء الشرقية التي تحتوي على ثروات ضخمة من الذهب والمعادن الثمينة الأخرى.
الأرقام تتحدث عن نفسها، إذ يُقدر احتياطي الذهب في هذه المناطق بمليارات الدولارات، في وقت يُعاني فيه الاقتصاد المصري من أزمات خانقة وفقر متزايد، وتضخم مستمر، وانخفاض في قيمة الجنيه المصري.
ومع ذلك، تواصل الحكومة التواطؤ مع قلة من رجال الأعمال والمستثمرين، في إشارة إلى أن المزايدة لن تأتي بأي فائدة حقيقية لمصر ولا لشعبها.
ليس هذا فقط، بل إن إصرار الحكومة على طرح هذه المزايدة على الرغم من فشل مشروعات سابقة في هذا المجال هو دليل قاطع على إهمالها المتعمد لفرص النمو.
فتاريخًا، لم تُسفر العديد من المحاولات الحكومية للاستفادة من الذهب في الصحراء الشرقية سوى عن نتائج ضئيلة أو عقود لصالح شركات أجنبية تحقق فوائد ضخمة على حساب ثروات الشعب المصري.
وبالتأكيد لا يخفى على أحد كيف أن عمليات التنقيب على مدار السنوات الماضية لم تُسهم بشكل كبير في تحسن الوضع الاقتصادي العام، بل إن هذه العمليات تمثل فرصة هائلة للمسؤولين في السلطة للحصول على “عمولات” ضخمة تحت الطاولة، بينما يظل الشعب المصري يعاني من غياب التنمية والتوزيع العادل للثروات.
الناظر إلى الأرقام التي تروجها الحكومة بشأن العوائد المحتملة للمزايدة القادمة يرى أنها مليارات الدولارات التي يُمكن أن تُدر على البلاد، ولكن للأسف هذه الأرقام تتجاهل حقيقة أن المزايدات السابقة التي طرحتها الحكومة لم تُحقق في معظم الأحيان الأهداف المرجوة.
بل على العكس، فقد تم استغلال هذه الفرص لملء جيوب القلة المسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي. فالحقيقة المرة التي يراها المواطن المصري الآن هي أن الحكومة لا تسعى سوى لتحقيق مصالح نخبتها الحاكمة، ولا تضع نصب عينيها مصلحة الشعب أو تحسين معيشته.
وفي حين يواصل المسؤولون في مصر تقديم وعود بالاستثمار والتنمية، تظل الحقيقة القاسية هي أن الحكومات المتعاقبة لم تقدم أي حلول جذرية لمعالجة الفساد المستشري، بل تستمر في تكريس بيئة من المحسوبية والمحسّنات الشكلية التي لا تفيد سوى قلة من أصحاب النفوذ.
على الحكومة أن تواجه الشعب بحقائق الأمور وأن تكشف عن دورها الفعلي في استغلال ثروات مصر لصالح الأفراد المقربين إليها، بدلاً من الاستمرار في التلاعب بالمزايدات التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الفشل.
ما يحدث اليوم هو نتيجة حتمية لسنوات من السياسات الفاشلة التي تضع مصالح القلة قبل مصلحة الوطن. قد تكون المزايدة القادمة هي الأخيرة في سلسلة الإخفاقات التي تؤكد أن مصر لن تستطيع الاستفادة من ثرواتها الطبيعية ما لم يتم الإصلاح الجذري للهيكل الحكومي والتصدي للفساد الذي ينخر في مفاصل الدولة.