مدن المليارات المهجورة: فساد حكومي صارخ وإهدار لأموال الشعب المصري
في مشهد يثير الاستياء والغضب، تكشف البيانات الجديدة عن فشل ذريع وتراجع واضح في تحقيق الأهداف التي بنيت على أساسها المدن الجديدة في مصر،
رغم إنفاق المليارات من أموال الشعب على مشروعات كانت تهدف لتحسين حياة المواطنين، تحولت تلك المدن إلى مجرّد مساحات شاسعة تكاد تكون مهجورة،
تكشف عن إهمال حكومي صارخ وفساد لا يُحتمل، فبدلًا من أن تصبح هذه المدن مراكز نابضة بالحياة تجذب ملايين السكان، فإنها بالكاد تضم 1.7 مليون نسمة، وهي نسبة ضئيلة جدًا مقارنةً بالقدرة الاستيعابية الهائلة لتلك المدن.
إحصائيات كارثية: المدن الجديدة لا تستوعب سوى 1.7% من سكان مصر
كشف مسح حديث أعدّه “مرصد العمران” مدى الفشل الذريع الذي أصاب مشروع المدن الجديدة في مصر، حيث أشار إلى أن المدن الجديدة التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، والتي تم إنشاؤها منذ عام 1979 وحتى منتصف عام 2024، لا تستوعب سوى 1.7% فقط من سكان مصر، أي ما يعادل 1.7 مليون نسمة من أصل تعداد سكاني يقارب 100 مليون شخص.
هذه النسبة الضئيلة تمثل صدمة حقيقية، خاصة عندما نأخذ في الاعتبار حجم الإنفاق الهائل على هذه المشروعات والذي وصل إلى مليارات الجنيهات.
وبالرغم من أن الهدف من إنشاء هذه المدن كان توفير السكن لملايين المصريين، إلا أن ما حدث في الواقع كان العكس تمامًا.
المدن الجديدة أصبحت، وفقًا للباحث في سياسات الإسكان والعمران يحيى شوكت، مجرد “أداة للادخار”، مما يشير إلى تحوّل في الهدف الأصلي من بناء المدن من تحقيق التوسع العمراني وتخفيف الضغط على المدن القديمة إلى مشروعات عقارية تستهدف فئات معينة للاستثمار، وهو ما يفسر عزوف معظم المصريين عن الانتقال للعيش فيها.
مدن شبه مهجورة: القاهرة والجيزة الأعلى، وأسوان بلا سكان
الإحصائيات الخاصة بتوزيع السكان في المدن الجديدة تفضح الحقيقة المؤلمة، حيث تبين أن محافظة القاهرة هي الأعلى من حيث عدد السكان الذين انتقلوا للعيش في هذه المدن، حيث بلغ عددهم 550 ألف نسمة، تليها محافظة الجيزة بعدد سكان بلغ 476 ألف نسمة، ولكن المفاجأة الكبرى كانت في محافظة أسوان التي لم ينتقل للعيش في مدنها الجديدة سوى 121 نسمة فقط، وهو رقم يُعدّ سخرية من حجم الإنفاق الحكومي الذي تم ضخه في تلك المشروعات.
أما بالنسبة إلى نسبة السكان الذين يعيشون في هذه المدن مقارنةً بعدد السكان الإجمالي لكل محافظة، فقد كانت النسب صادمة، حيث جاءت أعلى نسبة استيعاب سكاني في المدن الجديدة بمحافظتي القاهرة والجيزة عند 5% فقط من سكان المحافظتين.
في حين جاءت محافظة الشرقية في المرتبة الثالثة بنسبة 4.2%، ثم دمياط بنسبة 3.4%. وعلى الجانب الآخر، جاءت محافظتا سوهاج وأسوان في ذيل القائمة بنسبة تكاد تكون معدومة، حيث لم تتجاوز 0.01% فقط من سكان المحافظتين، مما يثير تساؤلات جدية حول أسباب عزوف المواطنين عن الانتقال للعيش في هذه المدن.
فساد وإهدار للموارد: تخصيص 2.2 مليون فدان لبناء مدن خالية
المسح يكشف عن أرقام مخيفة تتعلق بحجم الأراضي التي خصصتها الدولة لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، حيث تم تخصيص 2.2 مليون فدان لهذه الهيئة منذ صدور قانونها في عام 1979 بهدف تحويل هذه الأراضي إلى مجتمعات حضرية متكاملة.
إلا أن الواقع الحالي يكشف عن استغلال ضعيف جدًا لهذه الأراضي، حيث تُظهر البيانات أن من هذه المساحة الهائلة، هناك فقط 900 ألف فدان مخصصة للإسكان، وهي مساحات كافية لتسكين أكثر من 27 مليون شخص، بناءً على متوسط كثافة التخطيط العمراني المثالي والذي يُقدّر بحوالي 60 شخصًا للفدان الواحد.
ورغم هذا الكم الهائل من الأراضي المخصصة والإنفاق الضخم، لا يسكن في هذه المدن سوى 1.7 مليون شخص فقط، وهو رقم يكشف عن استغلال أقل من الأمثل لموارد الدولة، ويطرح علامات استفهام كبرى حول طريقة إدارة هذه المشروعات الضخمة وسبب فشل الحكومة في جذب المواطنين للسكن فيها.
لماذا فشلت المدن الجديدة؟: السبب الحقيقي وراء العزوف
أشار الباحث يحيى شوكت إلى أن التحوّل الذي حدث في هدف إنشاء المدن الجديدة هو السبب الرئيسي وراء فشلها في جذب السكان. فبدلًا من أن تُصمم هذه المدن لتكون مجتمعات عمرانية حقيقية تقدم خدمات متكاملة وفرص عمل وسكن بأسعار معقولة، تحولت إلى أدوات للاستثمار العقاري والادخار، مما جعل أسعار الوحدات السكنية في هذه المدن بعيدة تمامًا عن متناول المواطن العادي.
ولم يتوقف الأمر عند الأسعار فقط، بل إن غياب التخطيط العمراني الجيد والخدمات الضرورية مثل المستشفيات والمدارس ووسائل النقل العامة، جعل من الصعب على المواطنين الانتقال للعيش في هذه المدن، فمعظمها تحولت إلى مدن أشباح لا يجد فيها المواطنون سببًا للانتقال إليها. بدلاً من أن تكون هذه المدن الجديدة حلاً لأزمة الإسكان في مصر، أصبحت مجرد حبر على ورق ومشروعات فاشلة تسكنها أقلية من المستثمرين، بينما يعاني معظم المصريين من أزمة سكن حادة في المدن القديمة المزدحمة.
هل من محاسبة؟
ولا يمكن النظر إلى هذه الأرقام إلا باعتبارها شهادة إدانة للحكومة المصرية التي فشلت في تحقيق وعودها وتسببت في إهدار مليارات الجنيهات من أموال الشعب دون تحقيق نتائج ملموسة. لقد أصبح من الضروري فتح تحقيقات جدية حول الفساد والإهمال اللذين صاحبا هذا المشروع منذ بدايته، ومعرفة من المسؤول عن تحويل مشروع كان من المفترض أن يحل أزمة الإسكان في مصر إلى كارثة اقتصادية وعمرانية