من يملك المعلومة يملك القرار الصحيح، ومن يملك المعلومة يسبق الجميع بخطوة وأحياناً خطوات، ومن هنا تكتسب أجهزة الاستخبارات حول العالم أهميتها، الحرب ليست فقط بارود وقنابل وصواريخ .. هناك أجهزة معلومات تتحرك على رقعة الشطرنج مبكراً لإجهاض أزمة أو صناعة أخرى، من أجل تنفيذ مخطط أو إفساد غيره، من أجل بناء وضع معقد أو تفكيك أوضاع أكثر تعقيداً.. عزيزي القارئ.. حرب المعلومات حاضره في كل مشهد تراه .. في كل قرار يتخذ .. في كل معركة تقودها الدول من لحظة التأسيس وحتى مرحلة «كش ملك».
لذا جاء تعيين اللواء حسن رشاد مديراً لجهاز المخابرات العامة المصرية مفاجئاً للكثيرين في الداخل والخارج، مفاجئ لعدد كبير من العواصم خاصة تل أبيبب، يراه البعض تحرك مباغت أربك لاعبي المسرح في الشرق الأوسط المضطرب بالأساس، وجاء في ظروف استثنائية تمر بها المنطقة حيث كانت تتوقع الأغلبية، أن القاهرة لن تحدث تغيير جوهري في فريق الإدارة العليا في ظل ما يحدث في غزة ولبنان والسودان وحوض النيل والبحر الأحمر، مما يشير إلى أن قدرة مصر على المناورة والمبادرة مازالت حاضرة وبقوة، لدرجة أن الأنصار والخصوم والأعداء يسألون في وقت واحد.. ماذا حدث؟!.. ولماذا حدث؟! .. وما تأثيره على المشهد المصري والإقليمي؟!…
ما يشغلنا هنا .. ليس تساؤلات أو استنتاجات لاعب محلي هنا أو دولي هناك .. رغم أهميته.. ما يهمنا في ذلك المقال أن الخطوة المفاجئة تسببت في قلق كبير داخل تل أبيب.. نعم إسرائيل قلقة من الصقر المصري الجديد.. فقد ذهب الإعلام العبري إلى أن تغيير مدير المخابرات العامة المصرية والمجئ بأحد خبراء هندسة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والمسئول الأول عن ملف إيران والجماعات المرتبطة بها.. يعكس إستراتيجية مصرية جديدة.. إستراتيجية سوف تجعل مصر – بحسب تقارير داخل الكيان الصهيوني – أقرب إلي إيران، خاصة مع تزايد الفجوة في المواقف بين القاهرة وتل أبيب منذ طوفان الأقصى.. والتقارب بين القاهرة وطهران وضح بزيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للقاهرة، ثم لقاء الرئيس المصري مع نظيره الإيراني علي هامش قمة بريكس في قازان الروسية قبل أيام.
عزيزي القارئ.. أي حديث عن تقارب مصري إسرائيلي.. ليس إلا وهم من الخيال.. خداع للعوام وحشد عاطفي فاسد لإشعال الغضب في الصدور المحترقة بالأساس.. الضباع الصهيونية لا تحب الاسود المصرية مطلقاً.. وتدرك أنه لا مكان لها في ظل وجود الاسود، قد تهادن.. تناور .. تلعب على تفاهمات محددة .. لكن المؤكد أن مشروع تل أبيب قائم على إبعاد مصر والقضاء عليها في إطار ما يعرف بـ« إقامة دولة الرب من النهر إلى النهر» الذي يهدف إلى احتلال فلسطين ولبنان وسوريا والأردن وغرب العراق وشرق مصر وشمال السعودية، وهذا المخطط الصهيوامريكي يدرك أصحابه أنه لن يتحقق طالما القاهرة قوية ومتماسكة وصلبة وتملك زمام قرارها بيدها، وتتميز باقتصاد قوي وقادرة على المواجهة الشاملة.. وهو سر عملهم على إضعاف مصر على مدار عقود.
عزيزي القارئ.. إسرائيل تخشي من تداعيات عمق مصر الجيوسياسي والأيدولوجي، والذي يتيح هامش واسع من المناورة الإستراتيجية، ومنذ تعيين مدير المخابرات المصرية الجديد بدأ الموساد والأجهزة الأمنية والإعلام الإسرائيلي يرصدون بمزيد من الخوف والقلق هذه الحركة علي رقعة الشطرنج، وتأثيرها على العلاقات بين البلدين وعلى المشهد العام في الشرق الأوسط.. خاصة أن المنطقة يوجد بها ثلاثة مشروعات متقاطعة المشروع الإسرائيلي أو «خطة الجنرالات» القائمة على التمدد الخشن والصدام مع كامل المحيط الإقليمي من أجل إقامة دولة إسرائيل الكبرى من نهر النيل حتى نهر الفرات، والمشروع الفارسي القائم على استخدام أذرع إيران الخارجية في مواجهة أي خطر خارجي حتى تتمكن طهران من صناعة القنبلة النووية وإعادة حلم الإمبراطورية الفارسية، والمشروع المصري المتزن القائم على تجنب الصراعات ومنع الصدام والحفاظ على المصالح الوطنية والعربية، وامتلاك قوة الردع تحسباً لأي مواجهة، وكل طرف سواء في تل أبيب أو طهران يدرك أن اجتذاب القاهرة إلى صفه يعني تحقيق انتصار كبير في بنك أهدافه.. وهو ما يجعل القاهرة محط أنظار الجميع.. إقليماً ودولياً.. خاصة أن المحروسة هي كلمة السر العظمي في كل المشهد القادم.
قلق إسرائيل ليس فقط بسب إعادة إحياء ملف «العلاقات المصرية الإيرانية» من خلال الرئيس الجديد للمخابرات العامة المصرية، بل لما يتردد بأن اللواء حسن رشاد هو أحد تلاميذ اللواء عمر سليمان رجل المخابرات الأشهر وصاحب الرصيد الكبير لدي المصريين وصاحب التأثير الواسع في صناعة القرار محلياً وإقليمياً ودولياً… وهو ما جعل تل أبيب تدرك أنها مقبلة على مواجهة رجل قوي وقوي جداً.. في مرحلة كان البعض يريد فيها التهام القاهرة.. التي تعاني حصاراً إقتصادياً محكماً.. حصار يريد أن تكون مصر رجل العرب المريض .. لا يموت ولا يشفى .. والذي عبر عنه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كسنجر في مذكراته: «لا تتركوا الشعب المصري يجوع فيقوم بثورة، ولا يشبع فيلتفت لقضية الصراع العربي الإسرائيلي».. وفي كل مرة تفاجئهم مصر بأنها لا تمرض ولا تموت.. تتعثر ثم تنهض وكأنها لم تعانِ يوماً.. يرعبهم أن مصر تملك من المقومات ما يجعلها تعود قوة عظمى في بضع سنوات.. وكل الدراسات داخل أجهزة الاستخبارات العالمية تؤكد أن الشعب المصري عصي على الكسر مهما كانت الضغوط والصعوبات والتحديات.. لذا مصر والمصريين رقم صعب في معادلة الشرق الأوسط وفي مخطط صانع القرار العالمي.
المتابع للإعلام الإسرائيلي يكتشف الفجوة بين القاهرة وتل أبيب، بعدما نجحت مصر في إفشال مخطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وبعدما خرقت مصر إتفاقية كامب ديفيد وجعلتها حبر على ورق، وبات الجيش المصري منتشراً في كامل شبه جزيرة سيناء وحتى الحدود مع الكيان، نشاهد يومياً اصوات إسرائيلية تهاجم القاهرة بشكل متكرر .. تاره يتهمون مصر بتمويل حماس بالأسلحة والذخائر، وأخرى يدعون أن الأسرى الإسرائيليين موجدين منذ أكتوبر 2023 في مصر، وثالثة ورابعة في سيل من الإتهامات لا ينته، ومع تصميم نتنياهو وحكومته على احتلال محور فيلادلفيا ضد رغبة القاهرة اتسعت فجوة التنسيق الأمني الإستراتيجي حتى بين اللجان العسكرية المشتركة، لذا يحاول الحلف الصهيوامريكي، خلال الأيام الماضية، إخراج مصر من معادلة المفاوضات بين الكيان والفلسطينيين، فقد زار رئيس الموساد الدوحة ولم يأت إلى القاهرة، ورغم أن خليل الحية أحد قادة حماس طار للقاهرة لكن نتنياهو قرر عدم إرسال مدير مخابراته لأرض الكنانة لقطع الطريق عن المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار.
وسائل إعلام إسرائيلية تؤكد أن مدير المخابرات المصرية الجديد لواء حسن رشاد، له دور بارز في عودة الدفئ في العلاقات بين القاهرة وطهران، وهي الخطوة التي لم تكن تتمناها تل أبيب، وقال الخبير الاستراتيجي الإسرائيلي شموئيل إلمز، في تصريحات لـ«صحيفة غلوبس» العبرية، إن حسن رشاد، سيحاول تحقيق الاختراق الذي طال انتظاره في صفقة الأسرى، وربما يكون قادراً أيضاً على إنقاذ الاقتصاد المصري المتعثر عبر وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل ليعود الهدوء لمنطقة البحر الأحمر وتعود الملاحة إلى قناة السويس.
وفي تقرير لمؤسسة الأمن القومي الإسرائيلي تسأل داوفير وينتر: هل تغيير قيادة المخابرات المصرية لصالح أحد أهم مساعدي اللواء عمر سليمان هو مجرد تغيير اداري طبيعي أم أن الأمر خطير خاصة أن اللواء حسن رشاد كان مختصاً بملف العلاقات المصرية – الإيرانية، وجود وزير الخارجية الإيراني في القاهرة ليس مجرد حوار بل تقارب شديد الخطورة – بحسب تعبيره -، وقد اتفق الموساد مع خطورة الخطوة المصرية وأكد خبراء عسكريين واستخباراتيين صهاينة أن هناك تحول خطير في السياسة المصرية تجاه المحور الصيني الروسي الإيراني، ويري الإعلام الصهيوني أن مصر بالتقارب مع إيران تزيد من تأثيرها علي كل التنظيمات التي تحارب اسرائيل مثل حزب الله وحماس والحوثي.. وكشفت تقارير أن ما كان بين مصر وإيران هو الحرج من المملكة السعودية والخليج، لكن بعد تقارب ولي العهد السعودي مع إيران برعاية صينية أصبحت أبواب التقارب مفتوحة بين القاهرة وطهران دون تأثير سلبي على علاقة مصر مع العواصم الخليجية، بل إن بعض الخبراء الصهاينة طالبوا نتنياهو الاستفادة من الوضع الجديد بالإستماع للقاهرة وعقد صفقة وقف إطلاق النار بعد فشل إسرائيل على مدار 14 شهراً في القضاء على المقاومة وفشل حكومة نتنياهو في إعادة الأسرى!.
في سياق متصل، أكدت تقارير مصرية أن القاهرة لا تتحرك في ملف العلاقات الخارجية بمنطق المكايدة، وأن مصر محور مستقل يعقد تحالفاته وفقاً لمحددات الأمن القومي وأن أرض الكنانة تتمتع بثراء روحاني وديني وتاريخي يجذب إليها كل الشعوب والدول القديمة.. ويدرك الجميع، رغم تجميد العلاقات بين البلدين الكبيرين لعقود، أن إيران تحترم مصر وتعلم أن مصر هي أقدم دولة صوفية في التاريخ، ولا أحد أحب «آل البيت» وتبارك بزيارتهم مثل المصريين، وأعتقد أن التيار الكبير الذي يحب «آل البيت» بين الشعب المصري هو من يقلق التحليل الاستخباراتي الإسرائيلي لأنه يمثل الحاضنة الشعبية لأي تقارب مصري – إيراني، بل أن الرئيس السيسي نفسه، لم يخفِ ميله الشخصي للنزعة الصوفية أو التدين الروحي.
في الأخير.. بعدما تجاوزت القاهرة مؤقتاً محور فلادلفيا بالصبر الإستراتيجي، وفشل نظرية الجنرالات الإسرائيلية علي الأرض وفشل مشروع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، أصبح الكيان الإسرائيلي وأجهزته الاستخباراتية غير قلق من العراق أو سوريا أو لبنان.. فقط قلق من أي خطوة تخطوها مصر يكون ورائها كل العرب، وبات التقارب المصري الإيراني التركي بدعم الجزائر والخليج إلى جانب التفاهمات مع المحور الصيني الروسي خطوات لم تكن في حسابات الحلف الصهيوامريكي الغربي، الذي يخشى فشل مخطط الشرق الأوسط الجديد لصالح العرب ولو مؤقتاً وإلا يكون الثمن حرب شاملة مدمرة.. وهنا يبقى التحرك على كامل رقعة الشطرنج مفتوح في ظل مشهد إقليمي ودولي شديد التعقيد .. دعونا نترقب ونرى.