كشفوا الفساد فحاربهم النظام..جنينة وعبد الهادي وفاروق وقصة اعتقالهم كاملة
مع اتساع رقعة الأزمات في المنطقة وفشل النظام المصري في الخروج من أزمات الدولة الاقتصادية إلى بر آمن ومستقر، وسهم الفساد في مصر يتصاعد بشكل مستمر، مقابل تدني الخدمات وهدر الأموال في مشاريع فارغة لا تعود على المواطن بأى فائدة اقتصادية، فاتساعت رقعة الفساد وكثرة الأوليغارشية الاقتصادية والسياسية التى تحيط برؤوس النظام من دوائر الصفوة حول السطوة والنفوذ، حتى باتت مصر جمهورية اسما ورسما لكنها ملكية من حيث المضمون والموضوع، وأدرجتها منظمة الشفافية الدولية في المرتبة رقم 116 عالميا في مكافحة الفساد.
وبسبب الفساد المستشري في كل قطاعات الدولة، أصبحت مصر في المركز الأول عربياً والرابع عالمياً في قائمة الدول الأكثر تعرضاً لدعاوى التحكيم بالمركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار”الإكسيد”، وفقاً لقواعد بيانات المركز نفسه، والموقع الإلكتروني لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية.
وتعد ظاهرة الفساد المالي والإداري من أخطر ما تواجه مصر من أنواع الفساد والتى تعد آفة مجتمعية فتاكة وقد زادت وتيرتها في ظل نظام السيسي الذي أعطي الضوء الاخضر لها ، وهناك أكثر من 100 ألف قضية فساد وصلت للمحاكم في 9 سنوات بخلاف الفساد المستتر .
وتداخلت تلك الظاهرة الخطيرة في كل قطاعات المجتمع وعلاقاته، ابتداءً من الدولة بمؤسساتها الرسميــة التشريعيــــــــة والتنفيذية والقضائية ومؤسسات الثقافة والاعلام، وانتهاءاً بالأفراد في تعاملاتهم اليومية وأصبحت تؤثر في نسيج المجتمعات وسلوكيات الأفراد مما يكون له آثارمعاكســة واضحـــة ومباشرة علـــى التنميـــــــة الاقتصادية وتخلفها.
هشام جنينة أول الضحايا
كان الهدف من إنشاء الجهاز المركزي للمحاسبات تحقيق الرقابة الفعالة على أموال الدولة وأموال الشخصيات العامة الأخرى وغيرهم من الأشخاص المنصوص عليهم في القانون، كما يعاون مجلس الشعب في القيام بمهامه في هذه الرقابة، وكان المستشار هشام جنينة الذي عينه الرئيس الراحل محمد مرسي رئيسا لجهاز المركزي للمحاسبات أحد رموز “تيار استقلال القضاء” المعروف بدعمه الكامل لثورة 25 يناير 2011.
لكن السيسي لا يهتم بكل تلك المسميات فقد أقاله من منصبه يوم 28 مارس/آذار 2016، ولم تكن الإقالة -التي جاءت مخالفة للدستور حسبما يؤكده قانونيون- أمرا مفاجئا، بل كانت إجراء متوقعا من النظام الذي ظل منزعجا لكون جنينة عينه مرسي، وازداد انزعاجا بعد كشفه جزءا من فساد النظام. كان هشام جنينة مستهدفا من دبابير الفساد المنتشرة في مصر والتي أعادت إنتاج نفسها مع تولى السيسي للسلطة، خصوصا بعد أن رفض جنينة أن يصمت أو يجاري رموز هذا الفساد ومن يحميهم.
وحين صرح جنينة بأن المبالغ المفقودة بسبب الفساد بلغت نحو 600 مليار جنيه مصري ما بين 2012 و2015، شكل السيسي لجنة للتحقيق في هذه التصريحات، وقالت اللجنة إن جنينة “يبالغ، وأن حجم الفساد ستة مليارات وليس 600”.
وعندما حاول جنينة تقديم الدليل على ما قاله، قام نظام السيسي بحظر نشر أدلته، ثم فوجئ الجميع بإحالته إلى نيابة أمن الدولة العليا، ثم عُزل خلال ساعات بقرار جمهوري أصدره السيسي بدعوى “إضراره بسمعة البلاد وتأثيره على الاستثمار والاقتصاد”، وُمنع من السفر خارج البلاد.
وقد قالت ابنة هشام جنينة لوكالة رويترز وقتها إن الشرطة ألقت القبض على والدها وإن ما يصل إلى 30 رجل شرطة اصطحبوا أباها من منزله في إحدى ضواحي القاهرة في سيارة. ولا تعرف الجهة التي اقتادوه إليها. لم تقف أسباب الاعتقال عند تلك التصريحات فقط، بل إن جنينة كان عضوا في الحملة الانتخابية لسامي عنان رئيس أركان الجيش الأسبق الذي احتجز الجيش واتهمه بالترشح لانتخابات الرئاسة دون الحصول على إذن من القوات المسلحة.
وأدلى جنينة بتصريحات لموقع “هاف بوست عربي”حينها قائلا: إن عنان يمتلك وثائق وأدلة متعلقة بكافة الأحداث التي وقعت عقب ثورة 25 يناير 2011، من بينها حادث اغتيال مدير المخابرات المصرية عمر سليمان، مؤكدا أن تلك الوثائق ليست موجودة داخل مصر.
وبعد إقالته من منصبه وفي يوم الذهاب إلى حضور جلسة الطعن على قرار إعفائه المستشار جنينة من رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات، اعتدى عليه مجهولون بالضرب بأسلحة بيضاء، وقال علي طه، محامي جنينة، إن 3 مسلحين مجهولين اعتدوا على موكله بالضرب بأسلحة بيضاء وآلات حادة أثناء توجهه إلى المحكمة بمنطقة التجمع الأول شرق القاهرة لحضور جلسة الطعن على قرار إعفائه من رئاسة الجهاز، وأصابوه بإصابات خطيرة.
يحيى الذي يقاوم ليَحيا
أَمَا وقد خَلَعَت السُلْطةُ وريقةَ التوت التي كانت تُداري بها تَفريطَها في أصول الدولة تحت مُسَّمَياتٍ كاذبةٍ مخادعةٍ، وأعلنَتْها صريحةً أخيراً أنها بصدد تصفية الأصول .. يُصبح من العَبَثِ مخاطبة البائع الفاقد للأهلية والمصداقية .. ولكن يجبُ إعلامُ وإعلانُ كل من اشترى أو يفكر في أن يشترى أَيَّاً من هذه الأصول أننا بُرَآءُ من هذه السُلطةِ وكُلِّ بيوعاتها.
ومِن ثَمَّ، أُعلِنُ أنا المواطن المصري/ يحيى حسين عبد الهادي محمد لكُلِّ من يتعامل على هذه الأصول، إعلاناً نافياً للجهالة أنني لم أُفَّوِض أحداً أَيَّاً كان لبيع حِصَّتِي في المِلْكِية العامة، وأنَّ الأوكازيون المُقام ببجاحةٍ على أصول مصر هو أقربُ للتجارة فى المسروقات مِنْه إلى البيوعات القانونية السليمة .. فهذه البيوعات باطلةٌ وفقاً لكل القوانين المحلية والدولية العادلة، لأنها ممن لا يملك لمن لا يستحق .. كما أنني لا علاقة لي بهذه الديون التى تقتطعون من لحمي الحِّى ولحم أبنائي وأحفادي سداداً لها، وإنما هى نتاج قراراتِ وأفكارِ حُكْمٍ فردىٍ مُطلق .. وأحتفظ بِحَّقِي في استرداد أملاكي بمجرد زوال هذا البائع الجاثم على أنفاس المُلَّاكِ الحقيقيين .. فالبيع بلا توكيل .. التوكيل مُزَّوَر.
كانت تلك الكلمات كفيلة باختطاف الناشط المهندس يحيى حسين عبد الهادي من قبل مجهولين بطريقة بوليسية ودرامية وهو في الشارع راكبا سيارة مع أحد أصدقائه، فقد قال المنسق السابق للجمعية الوطنية للتغيير، عبد الجليل مصطفى إنه كان راكبًا سيارته مع المهندس يحيى حسين عبد الهادي في طريقهم إلى حي الدقي لحضور فعالية في حزب الكرامة، وخلال توقفه بالسيارة في إشارة مرورية عند امتداد شارع رمسيس مع محور صلاح سالم، فوجئ بسيارة تتوقف بجانبه، ونزل منها خمسة أشخاص بلباس مدني وفتحوا باب السيارة من جهة عبد الهادي وأخذوه معهم.
لا لبيع مصر
في رحلته لمواجهة إهدار المال العام في صفقة بيع عمر أفندي إبان حقبة مبارك، تقدم عبد الهادي ببلاغ للنائب العام ضد كل من وزير الاستثمار ورئيس الشركة القابضة بتهمة الضغط على لجنة التقييم التي كان عضوا منتدبا فيها لتسهيل الاستيلاء على المال العام لصالح شركة أنوال السعودية بمبلغ 450 مليون جنيه في حين أن التقييم الحقيقي 1.3 مليار جنيه أي هناك إهدار لـ600 مليون جنيه مصري.
كانت قضية عمر أفندي الحالة الوحيدة التي خرجت للنور بعد بلاغ عبد الهادي وقراره محاربة عملية البيع هذه مهما بلغت الضغوط التي سيتعرض لها هو وباقي أعضاء لجنة التقييم، وحينها قال: كان الأمر ككل أشبه بمهزلة من كان يجب أن أبلِّغ بهدر أكثر من 700 مليون جنيه من أموال المصريين، إذا كان كبار المسؤولين أنفسهم هم من يهدرون المال العام؟ وتعتبر حركة “لا لبيع مصر” التي شارك في تأسيسها عبد الهادي عام 2007، إحدى الحركات القوية التي وقفت في وجه الخصخصة وبيع أملاك المواطنين مع شبهات الفساد المالي والإداري.
ويقول عبد الهادي في حوار سابق عن تأسيسه تلك الحركة، التي ساهمت في تعطيل العديد من إجراءات بيع وخصخصة شركات ومصانع مملوكة للدولة الهدف من قيام تلك الحركة هو حظر البيع لأي أصل عام قبل أن يقول الشعب كلمته في كيفية التصرف في ممتلكاته الباقية من خلال استفتاء حقيقي وبإشراف قضائي كامل.
ما زال عبد الهادي يقبع خلف جدران السجون المصرية لا لشئ إلا لقوله كلمة حق في وجه منظومة فساد تسود وتقود منذ عشرات السنين، فبأى ذنب يُؤخذ ويُسجن؟ ورغم ذلك ما زال ثابتا على موقفه مستمسكا بمواقفه، ويبدو أنه وصل لحالة من السلام والرضا مع نفسه فقال لجلسائه يوما في إحدى جلسات محاكمته بتهمة نشر أفكار كاذبة: “إذا مت في السجن ادفنوني بملابسي لأحاجج بها من ظلمني” تلك هى وصيته الأخيرة.
عبد الخالق فاروق
الجنرال السيسي.. وسرقة القرن تحت هذا العنوان كتب الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق مقالة كانت سببا في اعتقاله واقتياده إلى مكان غير معلوم، مع مصادرة مسودات كتبه وجهاز اللابتوب الخاص به بالإضافة إلى هاتفين محمولين، وسبق أن اعتقلت السلطات الأمنية الخبير الاقتصادي في 21 أكتوبر 2018 بسبب نشره لكتابه بعنوان هل مصر بلد فقير حقاً؟، قبل أن يتم الإفراج عنه في 29 أكتوبر 2018.
عدة مقالات كانت سببا في اعتقال الخبير الاقتصادي على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي، أغلبها تنتقد الرئيس عبد الفتاح السيسي، والتي كان أبرزها “الجنرال السيسي .. وسرقة القرن – العاصمة الإدارية نموذجاً، وهل تقاضى الجنرال السيسي ثمن موقفه في محرقة غزة؟ والجنرال السيسي وحكاية جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة.. استيلاء على أراضي الدولة والتصرف فيها كعزبة خاصة دون رقابة أو مساءلة، وقصة صعود يوسف بطرس غالي إلى سلم السلطة والحكم في مصر… وما هي علاقته بوكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA؟.
تجاوز فاروق الخطوط الحمراء عندما حذّر من بيع الأراضي المصرية لدول خليجية، ومن مستثمرين أجانب لهم علاقة بدولة الاحتلال لأن ذلك يشكل تهديدا كبيرا للأمن القومي المصري، وكيف أن مشروع العاصمة الإدراية كان بوابة لسرقة مليارات الدولارات ودور العرجاني الذي اعتبره باب خلفي للفساد الرئاسي، ولفت فاروق أيضا إلى دور السيسي في خيانة القضية الفلسطينية مقابل الدعم السخي من صندوق النقد والدول الأوروبية.
وبعد خروجه من الاعتقال الأول قال فاروق في حوار خاص مع “بي بي سي” إن القبض عليه جاء ضمن مجموعة من السياسات العامة التي يتبعها عدد من المسؤولين وصناع القرار في النظام المصري منذ عدة سنوات تجبر أي معارض للسياسات الحالية على الصمت.
وقال إن الهدف الأساسي الذي دفعه لنشر كتابه “هل مصر بلد فقير؟” والذي أثار جدلا واسعا في هذا التوقيت تحديدا كان للرد مقولة رددها السيسي كثيرا أن مصر دولة فقيرة وفي حالة عوز، وهو أمر مخالف تماما للوضع الاقتصادي المصري الحالي ولكن ما تعيشه مصر حاليا هو إهدار للموارد يأتي بسبب سوء الإدارة والفساد المتجذر في الدولة المصرية.
خرج هشام جنينية من السجن وبقى فاروق وعبد الهادي يكملان مسيرة الظلم والاضطهاد غير المبرر، غير أنهم آخر الرجال الوطنيين المحبين لمصر والحريصين على حفظ مقدراتها وكشف الفاسدين وإبعادهم.