في خطوة تعكس الفوضى والانهيار الذي يعصف بالنظام التعليمي في مصر أعلنت الإدارات التعليمية عن قرار مثير للجدل ينص على ضرورة قيام المعلمين المرشحين للترقية بإجراء تحليل مخدرات خلال 15 يومًا كشرط أساسي لتقدمهم في السلم الوظيفي
هذه الخطوة ليست فقط بمثابة إهانة للمعلمين الذين عانوا طويلًا من تدهور ظروف العمل بل هي أيضًا تعكس تقاعس الحكومة عن معالجة جذور المشكلات الأساسية التي يعاني منها التعليم في مصر
متى أصبحت مسألة تناول المخدرات هي الشغل الشاغل للجهات المسؤولة عن التعليم بينما ينشغل المعلمون بمشاكلهم المالية والاجتماعية التي تفاقمت على مدار سنوات طويلة الأمر يتجاوز مجرد إجراء تحليل مخدرات
فالمطلوب هو رؤية شاملة تُعالج القضايا الحقيقية التي تؤثر على العملية التعليمية والتي أصبحت في أضعف حالاتها الحكومة تتنصل من مسؤولياتها وتقوم بإلقاء اللوم على المعلمين وكأنهم هم المسؤولون عن الأزمات التي تعصف بالقطاع التعليمي
التعليم هو أحد الأسس التي تقوم عليها الدول ولكن يبدو أن الحكومة المصرية اختارت طرقًا غير تقليدية للتعامل مع المشكلات الناتجة عن الفساد المستشري وضعف الإدارة وأزمات التمويل هذه السياسات لم تأتِ بمفاجأة بالنسبة للكثيرين لكن توقيتها يكشف عن مدى اللامبالاة والسطحية في التعامل مع قضايا جوهرية ومعقدة تمثل مصدر قلق للمجتمع ككل
القرار الذي أصدرته الإدارات التعليمية برقم 168 لسنة 2023 يتطلب من المعلمين المرشحين للترقية الذين هم على درجاتهم الحالية اعتبارًا من الأول من يناير عام 2018 أو الذين تم تعيينهم في عام 2018 سرعة عمل تحليل مخدرات وكأن عدم إجراء هذا التحليل هو السبب وراء تدني مستوى التعليم
تتطلب الإدارات التعليمية أيضًا تقديم صورة من بطاقة الرقم القومي وبيان حالة إلكتروني للمعلمين الذين استوفوا متطلبات الترقية للوظيفة الأعلى في سابقة خطيرة تعكس عدم الثقة بين الحكومة والمعلمين وكأن الحكومة تشكك في نزاهتهم وعملهم بينما هي من تقف مكتوفة الأيدي أمام الفساد الذي ينخر في عظام هذا القطاع
يتضح من سياق القرار أن التحليل لن يُحفظ في ملفات المعلمين فقط بل سيتم التعامل معه وكأنه سلاح للتهديد حيث يحفظ أصل التحليل بملف خدمة المعلم ويتم توقيع قسم الملفات على صورة التحليل وهذا يعني أن أي معلم قد يُواجه مصيرًا غامضًا ومخيفًا إذا لم يكن التحليل في صالحه مما يعكس جوًا من الخوف وعدم الاستقرار النفسي بين صفوف المعلمين
الأمر الأكثر خطورة هو التحذير الذي جاء في نهاية التصريحات حيث لوحظ أنه في حال عدم تقديم المعلم لتحليل المخدرات سيتم إحالة الأمر إلى الشؤون القانونية وهذه خطوة أخرى تُظهر مدى التعسف والظلم الذي يتعرض له المعلمون وكأنهم مجرمون وليسوا أفرادًا يسعون لتقديم تعليم جيد للأجيال القادمة
إذا نظرنا إلى الإطار العام الذي تتعرض له المنظومة التعليمية نجد أنه لا يكفي مجرد إجراء تحاليل طبية للتعويض عن الفشل الحكومي الذريع في تحسين الظروف التعليمية والمعيشية للمعلمين
فالتعليم في مصر يعاني من أزمة حقيقية تشمل تدهور المرافق التعليمية وقلة الرواتب وغياب الحوافز مما يدفع الكثيرين إلى التفكير في مغادرة المهنة تمامًا
الأرقام تتحدث عن نفسها فهناك آلاف المعلمين الذين لم يحصلوا على ترقيات منذ سنوات بينما يظل مستوى رواتبهم ثابتًا أو حتى متناقصًا في ظل الظروف الاقتصادية الحالية
ومع ذلك يأتي قرار الحكومة كأداة إضافية لزيادة الضغط على هؤلاء المعلمين في وقت يحتاجون فيه إلى الدعم والمساندة
إن التصرفات الحكومية تشير إلى أن هناك انعدامًا للثقة في المعلمين ولذا تفضل الحكومة اتخاذ خطوات تعسفية بدلاً من معالجة المشكلات الحقيقية وكأن المطلوب من المعلمين هو إثبات ولائهم للحكومة عبر تحاليل غير عادلة بينما لا يزال الفساد ينخر في مؤسسات الدولة دون رادع
إن ما يحدث اليوم من إجراءات تعسفية وغير إنسانية تجاه المعلمين يتطلب تحركًا جماعيًا من قبل النقابات والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان للوقوف ضد هذا العبث والتأكيد على أن المعلم هو حجر الزاوية في بناء مجتمع سليم ولا يمكن التقليل من قيمته أو زعزعة ثقته بنفسه من خلال إجراءات تفتقر إلى العدالة
لا يمكن إنكار أن هناك حالات من المخدرات قد تكون موجودة لكن ليست هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل معها فالتعليم بحاجة إلى رؤية استراتيجية ترتكز على تطوير المهارات والدعم النفسي والمادي للمعلمين وليس إلى مزيد من الضغوط التي لا تعكس إلا الفشل الإداري الحكومي
الخطوات المتخذة اليوم لا تعكس إلا شدة الفوضى والفساد في وزارة التربية والتعليم التي أصبحت عاجزة عن تقديم رؤية واضحة لمستقبل التعليم بل تأتي فقط لتضرب به عرض الحائط وتزيد من معاناة المعلمين الذين يعانون أصلًا من أزمات متعددة
إن المطلوب اليوم هو معالجة الوضع بشكل جذري وليس مجرد إجراء تحاليل قد تكون دون جدوى فالتعليم يحتاج إلى ثورة حقيقية تستهدف جميع جوانب المنظومة التعليمية بما فيها حقوق المعلمين وأدائهم
وإن حكومة تصرف أموال دافعي الضرائب في إجراءات عقابية ضد المعلمين لا تستحق أن تكون في موقع المسؤولية فإن كان التعليم هو أمل الأمة فلا بد أن تُعيد الحكومة النظر في سياساتها وتضع حداً لهذا الفساد المستشري
الوقت قد حان ليقف المعلمون والمجتمع بأسره في وجه هذه السياسات العقيمة ويجب أن يتم تسليط الضوء على هذه القضية الحيوية التي تمس مستقبل الأجيال القادمة فهل آن الأوان ليأخذ المعلمون حقوقهم ويُعاد النظر في الكيفية التي تُدار بها العملية التعليمية في مصر أم ستظل الحكومة تدور في حلقة مفرغة من الفساد والفشل الإداري