من سمات الرجال، الاعتراف الشجاع بالمسئولية، وتحمل تبعات الفشل. فكما يُنسب النجاح لأصحابه، ينبغي أن يُنسب الفشل لمن يتحمل مسؤوليته.
بعيدًا عن عواصف السياسة، حيث تتشابك الرؤى وتتنافر المصالح، تقف #مصر أمام مرآة الاقتصاد عارية من كل مجاملة، لتكشف عن جراحٍ غائرة وآلامٍ عميقة يرزح تحتها الملايين. ما يعيشه الاقتصاد المصري اليوم ليس أقل من نكسة جديدة، لكنها نكسة من نوع آخر؛ نكسة اقتصادية تُدمي أرواح المواطنين وتستنزف قدراتهم، كاشفةً عن إخفاقات متراكمة وعجز بات يؤرّق كل بيت في مصر.
بينما ترتقي الأمم وتتسابق في تحقيق طموحات النمو، تبقى مصر على حافة الركود، بنموٍ لا يتعدى نسبة ٢.٤٪، وهو رقم يضعها بين الدول المتأخرة، غير القادرة على تحقيق أدنى مستويات التنمية. في بلدٍ يتوق شبابه إلى قفزة تنموية تفتح لهم أبواب المستقبل، تبدو هذه النسبة الهزيلة كقيد حديدي يشد الاقتصاد إلى القاع، ويمنح المستقبل وجهًا رماديًا حزينًا.
وليس التضخم بأقل وقعًا على كاهل المصريين، إذ تتجاوز نسبته الرسمية ٢٦٪، في حين تشير تقديرات غير حكومية إلى تضخم يصل إلى ٦٥٪، ما يحوّل حياة المصريين إلى سباق مرير مع الأسعار المتصاعدة في كل يوم. في هذا الواقع الموجع، يتساقط الحلم بحياة كريمة أمام مرأى الأسر التي تُصارع لتوفير الأساسيات، في بلدٍ تتحول فيه أبسط حقوق العيش إلى رفاهية بعيدة المنال.
أما السياسات النقدية، فهي كالأغلال في معصم الاقتصاد؛ بفوائد تصل إلى ٢٧٪، يجد المستثمرون أنفسهم مطوقين بقرارات تعيقهم عن تحقيق أي اختراق. وفي ظل هذه التكاليف الباهظة للاقتراض، تتلاشى فرص النمو، ويضيع الأمل في مشاريع جديدة، ما يعني بطالة أكثر وفقرًا أعمق.
ويأتي الاعتماد على مصادر دخل غير مستقرة كبيع الأصول والأموال الساخنة ليزيد من هشاشة الاقتصاد؛ فهذه الأموال، التي تحمل فوائد مرتفعة تصل إلى ٣٠٪، ليست سوى خيطٍ رفيعٍ قد ينقطع في أي لحظة، تاركًا البلاد في مهب الريح، أسيرةً لأزمات متجددة لا تستقر على حال.
ومع استحواذ خدمة الديون على نحو ٤٧٪ من الموازنة، تبدو البلاد كمَن يصب نصف موارده في فوهة الدائنين، بينما النصف الآخر لا يكفي حتى لتوفير أساسيات الحياة. هذا الثقل من الديون يعمّق الأزمة، ليزيد من معاناة المواطن البسيط، الذي يجد نفسه ضحية بين فكي الدين والسياسات العاجزة عن الإصلاح.
ورغم كل هذا العناء، لا تزال الحكومة مستمرة في إنفاق الأموال على مشاريع ضخمة لا تمسّ حياة المواطن، بينما تحتاج البلاد إلى مشاريع تُطفئ جوع البطون وتروي ظمأ التعليم والصحة. هذه المشاريع تأتي كخيار ترفي، بينما يطالب المواطنون بضروريات الحياة، لتتحول الصورة إلى مأساة تُختزل فيها الأحلام بكسرة خبز ومقعد في مدرسة.
في ظل هذا الواقع الاقتصادي المرير، يزداد التساؤل حول الحكمة من وراء تخصيص الموارد لمشروعات ثانوية، تفتقر إلى الأولوية العاجلة، بينما يعاني المواطن من شح الضروريات. إنفاق ملايين الجنيهات على مشروعات لا تعود بالنفع المباشر على تحسين حياة الناس اليومية في وقت يعاني الاقتصاد من ضغط متزايد، يضع صانع القرار أمام علامة استفهام كبرى.
هل هي محض رؤية غير واضحة، أم أن أولوية المسؤولين تختلف عما يُحتاج فعليًا على أرض الواقع؟ في ظل تصاعد العوز والفقر، يبدو هذا الإنفاق كترفٍ بعيد عن احتياجات الشعب، لتتحول خيارات الحكومة إلى عبء إضافي يثقل كاهل المواطنين، ويزيد من حجم التساؤلات حول مدى قرب أصحاب القرار من نبض الشارع واحتياجاته الحقيقية.
ومع ارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة، يجد ثلثا الشعب المصري أنفسهم إما تحت خط الفقر أو على حافته، كمن يمشي على حبل مشدود في وسط عاصفة. هؤلاء الذين أرهقهم البحث عن لقمة العيش في بلدٍ يشهد أزمة اقتصادية، وأخرى أخلاقية، حيث تنعكس صرخاتهم في أصداء الصمت الحكومي.
وتكبل مصر باتفاقاتها مع صندوق النقد الدولي، التي تجعل نصف عائدات الأصول ملكًا للدائنين، تاركةً اقتصادها رهينًا للخارج، في وقتٍ تتوق فيه البلاد إلى موارد تُعيد بناء ما تحطم. هذه السياسة تزيد من التبعية، لتعمق الجراح وتطيل من أمد المعاناة، وكأن آمال التحرر من الأزمة تُبدّد في مهب الرياح.
ولم تكن التحديات الإقليمية بعيدة عن هذا المشهد المأساوي؛ فما بين أزمة #السودان والنزاعات في #غزة، تجد مصر نفسها مجبرةً على تأهب دائم يستنزف مواردها العسكرية والاقتصادية. هذه الأعباء الخارجية تزيد من هشاشة الاقتصاد، لتتركه عالقًا في دوامة من الضغوط.
في نهاية المطاف، تتجلى الأزمة كواقع معقد، لا حلول سحرية له، ولا طوق نجاة واضحًا يلوح في الأفق. وبينما تغرق البلاد في بحرٍ من الأزمات، يبقى السؤال معلقًا: هل تملك مصر الأمل في إصلاح حقيقي يعيد لها توازنها، أم أن مصيرها البقاء أسيرة هذا الظلام الاقتصادي؟