مقالات ورأى

د.عمرو هاشم ربيع يكتب : إلى متى تبكى مصر على هدم المقابر وتقطيع الأشجار العتيقة؟

أزمة هدم المقابر وتقطيع الأشجار العتيقة هى واحدة من أكثر الأزمات التي تمر بها مصر (ولا تزال) في السنوات الأخيرة. الأزمة مرتبطة ببعد ثقافي وتربوي وحضاري وقيمى معنوي كبير،

وهي واحدة من أكثر القضايا حساسية في المجتمع المصري في الوقت الراهن، لا سيما وأنها أصبحت قضية رأي عام، وتشغل بال الملايين في المجتمع ممن هم مهتمون بالثقافة والبيئة والولع بتراث الأجداد والفن وقيم الأصالة. 

أبرز ما يمكن أن يرتبط بهذا الأمر هو التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري في الوقت الراهن، وهي تغيرات لصيقة بعديد الأمور التي طرأت على المجتمع العالمي، الذي أخنا منه القبيح، وتركنا محاكاة الحسن منه. ما طرأ من حداثة أرتبط بالأساس بقيم المعاصرة والولع بالتقدم التقني والمعلوماتي والإتصالات،

وغزو الأفكار التي تبث عبر التواصل الاجتماعي وتطبيقاته والهواتف النقالة والإنترنيت والفضائيات، والبعض من تلك الوسائل بدا يروج للأفكار الرأسمالية المتوحشة التي لا تعرف الكثير عن التراث وتجهل الأبعاد الحضارية والماضوية والبيئية، وتهدف إلى الإرباح السريع والتطور الاقتصادي والتطاول في البنيان، على حساب الجمال والتاريخ والوجدان. 

مبررات الهدم والتقطيع

كلنا كمصريين تابعنا الأسبوع الماضي، بكثير من الشجون المنظر الذي يدمى القلوب قبل العيون مشاهد هدم قبة “نام شاذ قادين والدة الأمير محمد عبدالحليم باشا ابن محمد علي” مستولدة محمد على بقرافة الإمام الشافعي.

 لا شك أن هناك مبررات تسوقها الطغمة الإدارية لتبرير فعلة الحكام إزاء ما يحدث من أعمال هدم الآثار الجنائزية خاصة والمقابر عامة. 

في العموم، تساق دائما ذرائع لما هو يجرى في مصر من سياسات إزالة المقابر ونقل رفاتها بعد الاتصال بورثة هؤلاء وذويهم، وذلك إذا علم لهؤلاء عنوان أو وسيلة اتصال، والذي عادة ما يكون حارس المقبرة(التربي)أو أحد سكانها هو الوسيط لإبلاغ الرسالة،

لكن تزداد المشكلة كبرا مع عدم التعرف على هؤلاء، حيث تسبق سكين الحفار أصحاب الضمائر الحية، فتهدم الأسوار وترفع العظام والأجداث دون مراعاة لتراث أو تاريخ أو سيرة طيبة أو ذكرى حميدة، ومن باب أولى دون شفقة أو رحمة لميت. 

بموازاة ذلك كله، وإن كان غير بعيد عنه، هناك مبررات تساق دوما لما تقوم به المحليات بناء على طلب وزارة النقل لتقطيع الأشجار العتيقة الوارفة الظل والنادرة والمتجذرة في الأرض لعقود طويلة،

وهذه التبرير يساق للمجتمع وليس لأشخاص بعينهم. فعلى عكس المقابر والجبانات التي يعتبر إزالتها له أبعاد شخصية وعامة، فإن الأخيرة لها بعد عام بشكل أساسي.

واحد من أهم التبريرات التي تساق لأعمال الإزالة أو التقطيع معا هو التطوير والتنسيق المعماري والبعد العمراني الأخذ في الزحف والنمو بسبب الزيادة السكانية في مصر، وهو بعد عادة ما يرتبط في الوقت الراهن بالسياسة العامة المتصلة بالبحث عن وسائل تسهل على الناس الانتقال، وتبحث عن محفزات للمستثمرين،

مما يجعل يد “المطور” تطال بلا أدنى عواطف الجمال والتراث والتاريخ والسيرة، فتقوم بوضع كتل أسمنتية لتأسيس محور مروري أو تأسيس جسور مرتفعة وشاهقة تربط الطرق ببعضها، دون أن يكلف المطور نفسه عناء التفكير في البحث عن بديل لهدم المقابر أو إزالة الاشجار النادرة.

وتقطيع الأشجار يبدو سياسة قديمة، على العكس من إزالة المقابر التي تعد مستحدثة. فهذه الأخيرة لن يمر عليها أكثر من خمس سنوات، وقد هددت مقابر الإمام الشافعي، ومقابر المماليك، وحوش الباشا(محمد على والي مصر)، ومقابر السيدة نفيسة(حفيدة الإمام الحسن بن على كرم الله وجهه)، ومقابر السيدة عائشة(أبنة جعفر الصادق حفيد الإمام زين العابدين بن الحسين رضى الله عنه)،

 والكثير والكثير من مقابر رواد السياسة والأمراء والأميرات وكبار الحاشية العلوية والمملوكية والفاطمية وقادة الفكر والأدب والفن والتخطيط والعمارة والعلوم. وهذا العام،

وتحديدا في مارس 2024 أعلن أن التطوير سيطال مقابر وجبانات سفح المقطم المعروفة ببقيع مصر، بسبب وجود مقابر العديد من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام والأشراف والأئمة والفقهاء والزهاد والصوفية والمؤرخين الكبار بها.

قرار رئاسي بشأن المقابر

في 12يونيو 2023، أصدرت الرئاسة المصرية كرد فعل للجدل المثار حول هدم المقابر التاريخية والأثرية بيانا أكدت فيه أنه ستشكل لجنة من الحكومة والمتخصصين لبحث الأمر، تنتهي من عملها في الأول من يوليو من نفس العام،

 لتعلن رأيها على الكافة، وتقوم بالبحث عن كيفية التعامل مع حالات الضرورة التي أفضت إلى نموذج التطوير العمراني. كما أوضح البيان أنه سيتم تأسيس “مقبرة الخالدين” التي ينقل إليها رفات المشاهير ورواد وعظماء التراث والتاريخ المصري مع عمل سيرة ذاتية لهؤلاء بالمتحف المزمع. 

لا شك أن القرار السابق كانت مشكلته الرئيسة أنه شكل اللجنة وأعطى القرار الذي ستخرج به، لأنه ذكر أن اللجنة يجب أن تتعامل مع نموذج التطوير، وكأن هذا النموذج معطى وغير قابل للتغيير. كما أن عمل “مقبرة الخالدين” هو أيضا وسيلة لامتصاص غضب، لن ينطفىء بنقل الرفات،

لأن النقل سيتم معه هدم الزخارف النادرة والعمارة الجنائزية والنقوش والسقوف والجدران فائقة الجمال المطلاة بماء الذهب والخطوط العربية الفريدة التي طليت وكتبت على عديد جبانات الأسرة العلوية وغيرها، ناهيك عن انتهاك حرمة الموتى بعدم وجود حاجة ملحة غير قابلة للتعامل إلا بالنقل كتجنب كارثة حلت بالمكان كحدوث زلزال هدم المقابر بالفعل،

أو وقوع حريق مدمر بها، أو وقوع حرب أو تفجير إرهابي تسبب في تلف غير قابل للإصلاح. على أية حال، فإن اللجنة المشكلة أصدرت تقريرها، بأن هناك بدائل لهدم المقابر،

وأن المحور المرورى لن يحل كثيرا مشكلة الزحام والتكدس، بل أن اللجنة أوصت بسرعة التعامل مع ما يهدد تلك الجبانات من مياة جوفية ومياة صرف صحي. لكن ورغم ذلك فقد عاجلت الحكومة الأمر ببناء جسر عملاق فوق ضريح طه حسين مباشرة بحي الخليفة، وكأنها تقول للناس أنظروا إلى نقل الرفات هل هو أرحم أم هذا المنظر المشوة للضريح بهذا الجسر الذي أنشأته رغم كل المناشدات!!

تداعيات تقطيع الأشجار

بشأن تقطيع الأشجار تظهر المشكلة بشكل أكثر اتساعا وعلى مستوى الجمهورية، وتتقاسمها المحليات ووزارات الإسكان والمجتمعات العمرانية والزراعة والري. لكن تبقى الذرائع واحدة كما هو الحال في شأن المقابر،

وهي توسيع الطرق والمحاور المرورية بسبب الزيادة السكانية والزحف العمراني، مع إضافة رغبة الأمن في إظهار كاميرات الشوارع، وإلتفاف الأشجار حول أعمدة الإنارة. أما النطاق الجغرافي للتقطيع فكثير،

لكن أبرزه والأكثر إثارة للجدل فكان أشجار حديقتي الحيوان والأورمان وكورنيش العجوزة بالجيزة وحديقتي المريلاند والفسطاط ومن قبل ذلك حديقة الأزبكية بالقاهرة.

المغالاة في التقطيع الذي تجاوز حد تهذيب الأشجار إلى مرحلة القطع من الجذر أو قطع معظم الساق أسفر عن تنديد شديد من قبل أنصار البيئة وعديد السكان بتلك الضواحي، بسبب القضاء على المظهر الجمالي،

وتلويث البيئة خاصة في هذا الزمان الذي يشهد مقاومة للإنبعاثات الحرارية بمزيد من التشجير ومقاومة التصحر، والحد من استشراء الكتل الأسمنتية، وذلك كله في ظل اتهام تلك الجهات للسلطات بالتعاون مع رجال أعمال لتصدير الفحم إلى خارج البلاد.

المشكلة لا تزال معلقة

هكذا تظهر المشكلة التي لا يبدو أنها ستحل قريبا، وأطرافها واضحة الدولة والمجتمع، الزحف العمراني والتطوير المكاني في مواجهة التراث والبيئة والحضارة والتاريخ. بطبيعة الحال، لا تقوى السلطة على تحدى الإرادة المجتمعية حال تماسكها وتعاضدها، لكن بمجرد استشعار وهنها لا تلبث أن تعود وتتنمر بالأجداث والأشجار.

تجارب الأخرين خارج البلاد كثيرة في الحفاظ على التراث والتاريخ، إذ تدور المحاور المرورية في طرق إلتفافية منعا للنيل من الآثار. وحتى في مصر يبدو المظهر متناقضا بين ما تقوم به السلطة كما وضح أنفا، وبين ما تقوم به نحو عدم المساس بمقابر الغير. مقابر العلمين الخاصة بضحايا الحرب العالمية الثانية، وكذلك مقابر اليهود والأتراك وغيرهم نموذجا واضحا لصيانة الحكومة في مصر لتاريخ الغير وحرمة أجداثهم.

لا أحد في قضية هدم المقابر وتقطيع الأشجار يتحدث عن الدستور والقانون، فهما يمنعان تلك التصرفات المناهضة للتاريخ والحضارة والتلوث البيئي. فالدستور مواده واضحة، أما القانون فقانون البيئة رقم لسنة 1994 يعاقب بالحبس والغرامة مرتكب جريمة تقطيع الأشجار، وقانون117 لسنة 1983 يمنع هدم الأثار التي مضى عليها100 عام وغيرها من المقابر الحديثة والمسجلة كأثار. بعبارة أخرى،

لا أحد يملك أن يحاكم الحكومة المتجاوزة للدستور والقانون، يكفي أن وزيرة البيئة ذاتها سبقت وقالت أن توسعة الشوارع تقضى على التلوث المنبعث من أدخنة السيارات أكثر مما تجلبه فوائد بقاء الأشجار العتيقة بالشارع.

أما في الجبانات فيكفى البعض ما صدر عن مفتى الديار المصرية شوقي علام منذ2021 في كتاب الفتاوى الإسلامية المجلد42 والمجلد48 من تحريم وتجريم وتوعد لكل من يقوم بهدم الأضرحة والجبانات والمقابر التاريخية وغير التاريخية.

وعلى الصعيد الدولي تبدو المشكلة في أن اليونسكو قد وضعت منطقة القاهرة الفاطمية منذ العام 1979 ضمن قائمة التراث العالمي، وقد هددت المنظمة مؤخرا نتيجة كل هذا الإهمال بشطبها من تلك قائمة ونقلها إلى قائمة “التراث المعرض للخطر”.

فهل يليق أن يحدث كل ذلك الهدم وهذا التبوير البيئي وفي الإمكان تجنبه. ألم يكفينا قروض أعجزت الموازنة لمجرد بناء محور أو منوريل أو علمين، ومعظمها أعمال ثبت أنها تأتي على حساب الأصالة والتراث والجمال. 

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى