جاءت مصر في المرتبة 86 عالميًا في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024 من بين 133 دولة، بتقدم 3 مراكز عن ترتيبها السابق في عام 2022 حين كانت في المركز 89 من أصل 132 دولة،
ومع ذلك فإن هذا التقدم الطفيف لا يعكس الحقيقة المرة التي يعيشها قطاع الابتكار في مصر، حيث تشير هذه الأرقام إلى أزمة عميقة في إدارة الدولة لهذا الملف المهم.
فرغم الأهمية المتزايدة للابتكار في عصرنا الحالي، تواصل الحكومة المصرية تبني سياسات بيروقراطية تعرقل الإبداع وتحد من الفرص التي قد تدفع بالاقتصاد المصري نحو النمو والازدهار.
الفساد المستشري في مؤسسات الدولة يعكس تراجعًا خطيرًا في أداء القطاعات الأساسية التي تعتمد على الابتكار، وهو ما يبرز في سوء الإدارة الواضح وتباطؤ حركة تطوير البنية التحتية التي تدعم البحث العلمي والتكنولوجيا.
بينما تزعم الحكومة التقدم بخطى ثابتة نحو مستقبل أكثر إشراقًا، فإن الواقع يقول غير ذلك، حيث تسود الفوضى في أغلب الوزارات، بدءًا من وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مرورًا بوزارة التعليم العالي، وصولًا إلى وزارة الصناعة والتجارة، مما يجعل كل ما يتم الإعلان عنه مجرد وعود فارغة.
ويأتي هذا التقدم الطفيف على مؤشر الابتكار العالمي على الرغم من فشل الحكومة في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تشكل العمود الفقري لأي اقتصاد حديث.
فقد تم تخصيص ميزانيات ضخمة لمشاريع تنموية في قطاعات مثل التعليم والتكنولوجيا، لكن الفساد المالي والإداري أفسد تلك الجهود، وأدى إلى تبديد الأموال العامة في مشروعات غير مجدية على أرض الواقع، في حين تبقى الكفاءات المصرية على الهامش، عاجزة عن الاستفادة من هذه الموارد.
في الوقت الذي تعمل فيه الدول المتقدمة على توفير بيئة محفزة للإبداع ودعم المواهب المحلية، نجد أن مصر لا تزال تتخبط في سياسات تعتمد على المحسوبية وغياب الشفافية.
فبدلًا من دعم البحث العلمي وتطويره بشكل جاد، تكتفي الحكومة المصرية بإطلاق شعارات جوفاء تتغنى بالتقدم في التقارير الدولية، بينما الواقع يشهد أن هذا التقدم لا ينعكس فعليًا على حياة المواطنين أو الاقتصاد المصري.
وفي مجال التعليم، تشهد مصر كارثة حقيقية، حيث تفشل المؤسسات التعليمية في تخريج كوادر مؤهلة تستطيع المنافسة في سوق العمل العالمي.
الجامعات تعاني من نقص في التمويل، المناهج التعليمية عفا عليها الزمن، ولا يوجد أي اهتمام جدي بتطوير الكفاءات أو تشجيع الطلاب على الابتكار.
هذه المشكلة تبدأ من الابتدائية وتستمر حتى التعليم العالي، وتؤدي في النهاية إلى هجرة العقول المصرية إلى الخارج، حيث يجدون هناك الدعم والبيئة المناسبة لتحقيق طموحاتهم.
أما على صعيد دعم الشركات الناشئة وريادة الأعمال، فالبيئة الاستثمارية في مصر معقدة بشكل كبير، وتتسم بالبروقراطية والروتين القاتل. المستثمرون المحليون والدوليون يواجهون عقبات لا حصر لها عند محاولة تأسيس مشاريع جديدة أو تطوير الأفكار الابتكارية.
الضرائب المرتفعة، التشريعات غير المشجعة، والفساد المتغلغل في المؤسسات، كلها عوامل تجعل من الصعب جدًا على أي مشروع أن ينجح أو يزدهر. والحكومة، رغم وعودها المستمرة بالإصلاح، تبدو عاجزة عن القيام بأي خطوة حقيقية لتحسين هذه البيئة.
وفي ظل هذه الظروف، فإن هذا التقدم الضئيل الذي حققته مصر على مؤشر الابتكار العالمي يبدو مجرد “تجميل رقمي” لا يعبر عن التحسن الفعلي، بل ربما هو نتيجة حسابات تقنية داخلية في المؤشر ذاته. على أرض الواقع، مصر لا تزال بعيدة عن تحقيق أي إنجاز حقيقي في هذا المجال.
أكثر من ذلك، فإن الأرقام التي يتم تداولها لا تمثل الصورة الكاملة، حيث يتم تزييف الإنجازات والتلاعب بالإحصاءات لخلق صورة زائفة من النجاح.
بالنسبة للحكومة المصرية، فإن التقدم بثلاثة مراكز فقط في مؤشر الابتكار هو إنجاز يستحق الاحتفال، لكن هذا الإنجاز يصبح بلا معنى عندما نضعه في سياق الواقع المؤلم للقطاعات المختلفة في الدولة.
فالاقتصاد المصري لا يزال يعاني من ركود، ومعدلات البطالة مرتفعة، والقدرة التنافسية العالمية لمصر تضعف يومًا بعد يوم. إذا كانت الحكومة جادة في تحسين ترتيب مصر في مثل هذه المؤشرات، فعليها أولًا القضاء على الفساد وتقديم دعم حقيقي للبحث العلمي والشركات الناشئة، بدلًا من تكرار الأخطاء نفسها.
ويمكن القول إن الفشل الحكومي في إدارة ملف الابتكار هو انعكاس لسياسة عامة تتسم بالعشوائية والفساد، وإن مصر لن تحقق تقدمًا حقيقيًا على أي مؤشر عالمي ما لم تضع خططًا استراتيجية واضحة وشفافة، وتتعامل بجدية مع المشاكل العميقة التي تعيق مسيرتها نحو المستقبل.