العاملون في المجال الإنساني يواجهون أهوالاً لا يمكن تصورها في السودان
في مخيم للنازحين في بورتسودان، كان هناك حوالي 110 من الأطفال الذين نزحوا جميعاً عن منازلهم بسبب الحرب.
وبينما كانوا يجلسون بين ملاجئ مؤقتة مصنوعة من صفائح بلاستيكية، تحدث الأطفال إلى أعضاء فريق الدعم النفسي والاجتماعي من منظمة الإغاثة الإسلامية الخيرية واصفين ما مروا به من مآسٍ.
رسم الأطفال صوراً لرجال يحملون البنادق، وآخرين يقتلون الناس، ومنازل تحترق وعوالم تنتهي.
اقترب طفل صغير، يبلغ من العمر ست أو سبع سنوات، من وسيم أحمد، الرئيس التنفيذي لمنظمة الإغاثة الإسلامية، وسأله عما إذا كان لديه أي حلوى.
وقال أحمد لموقع ميدل إيست آي: “لقد أدركت أنه كان يعاني من سوء التغذية، فسألته عما كان يأكله فقال إنه أكل كل ما وجده في الطريق، العشب والحشرات”.
أعطى أحمد للطفل قطعتين من الحلوى، فأخبره الصبي أنه سيحتفظ بواحدة لأخته وأخذ أحمد لمقابلتها ووالدتهما، حيث قالت المرأة لأحمد إنها “لا تعرف أين زوجها”.
أجبرت المعارك في سنجة في ولاية سنار جنوب شرق السودان، المرأة على الفرار مع أطفالها من مسقط رأسها سيراً على الأقدام.
ومع ارتفاع درجات الحرارة خلال النهار إلى أكثر من 40 درجة مئوية وانتشار الجماعات المسلحة على الطرق، كانت السيدة تقود أطفالها ليلاً عبر الأدغال والغابات.
استغرقت الأسرة 12 يوماً للهروب من القتال، وفي النهاية، وصلوا إلى بورتسودان، المدينة الواقعة على البحر الأحمر والتي تستضيف الآن حكومة البلاد المتحالفة مع الجيش ومئات الآلاف من النازحين بسبب الحرب التي بدأت في أبريل/نيسان 2023.
أخبرت الأم أحمد كيف كانت تسمع بشكل دوري صراخ وصرخات نساء أخريات أثناء رحلتها التي امتدت 300 كيلومتر مع أسرتها.
وأوضح أحمد أن قوات الدعم السريع، وهي القوة شبه العسكرية التي كانت مرتبطة ذات يوم بالجيش السوداني، ولكنها تقاتل ضده الآن، كانت “تنتزع النساء والفتيات الصغيرات من أقاربهن”، وهو يروي محادثات أجراها مع بعض هؤلاء النساء خلال رحلته الأخيرة إلى بورتسودان.
وفي المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، غالباً ما تقع عمليات الاختطاف والاعتداءات عند حواجز الطرق.
ولتجنب هذا، وجهت والدة الصبي أسرتها بعيداً عن المسارات التي يمكن الوصول إليها بالمركبات.
وقال أحمد، في إشارة إلى قوات الدعم السريع، “إنهم يستخدمون الاغتصاب والعنف كسلاح حرب”.
ويقول أحمد وهو يتذكر أول لقاء له مع الصبي: “يا له من صبي بريء يسألني هل لدي حلوى؟ في هذا العمر، كيف يمكن أن يحدث هذا؟”.
عاد أحمد الذي عمل في هذا المجال لمدة 24 عاماً إلى هذا الموضوع خلال مقابلة مع ميدل إيست آي بعد يوم واحد من عودته من رحلة استمرت أسبوعًا إلى السودان، حيث تعمل الإغاثة الإسلامية حالياً في بورتسودان والقضارف ووسط دارفور وغرب كردفان وشمال كردفان.
لقد أجبرت الحرب، التي مضى عليها الآن 18 شهراً، ما يقرب من 3 ملايين سوداني على مغادرة البلاد، في حين أفادت المنظمة الدولية للهجرة أن ما يقرب من 11 مليون آخرين نزحوا داخلياً.
“ما رأيته في عيون النساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي، واللاتي قُتل أطفالهن أمامهن ليس شيئاً تريد أن تراه في هذا القرن” – وسيم أحمد، الرئيس التنفيذي للإغاثة الإسلامية
ولا تتوفر إحصاءات رسمية أو موثوقة لعدد الذين قتلوا في الصراع المستمر، الذي بدأ في العاصمة الخرطوم، وانتشر إلى دارفور، وامتد إلى ولايات أخرى.
ويقول أحمد إن فريقه في السودان يقدر أن عدد القتلى قد يصل بالفعل إلى 200 ألف.
ففي دارفور، المنطقة الغربية الشاسعة التي شهدت صراعاً طيلة معظم القرن الحادي والعشرين، استهدفت قوات الدعم السريع مجموعات غير عربية، وخاصة شعب المساليت الأفريقي الأسود، فيما وصفته جماعات إنسانية بالإبادة الجماعية المستمرة.
أمضى أحمد عام 2005 يعمل في الجنينة، عاصمة غرب دارفور، في مخيم يضم 20 ألف شخص، وقد اتُهمت ميليشيات الجنجويد، التي نشرتها الحكومة الاستبدادية للرئيس السابق عمر حسن البشير، بسحق التمرد في دارفور، وقتلت ما يقدر بنحو 300 ألف شخص في هذه العملية.
وفي عام 2013، استولى البشير على الجنجويد وحولها إلى قوات الدعم السريع، ووضعها تحت رعاية الدولة ونصب عليها أحد قادتها، محمد حمدان دقلو، الجنرال في قوات الدعم السريع المعروف باسم “حميدتي”.
وقال أحمد لموقع ميدل إيست آي: “أرى أن صراع عام 2005 لا يُقارن بما يحدث الآن، ستترك هذه الحرب ندوباً طويلة الأمد لدى هذا الجيل، وهناك حاجة إلى دعمه، وسيستغرق الأمر عقوداً من الزمن”.
وفي الجنينة، حيث عمل أحمد ذات يوم، خلفت الحرب الحالية خسائر فادحة، إذ يصف السكان مدينة مليئة بالجثث المتعفنة ويروون لموقع ميدل إيست آي عن قائمة طويلة من الجرائم التي ارتكبها مقاتلو قوات الدعم السريع، بما في ذلك الاغتصاب والاختطاف والقتل.
وخلال الحرب، لم تتمكن وكالات الإغاثة من الوصول إلى أجزاء كبيرة من البلاد، وفي اجتماع عقد في البرلمان البريطاني في أبريل/نيسان، قال مايكل دانفورد، مدير برنامج الغذاء العالمي في شرق أفريقيا، إن قوافل الشاحنات التي تحمل مساعدات حيوية استغرقت ستة أسابيع لعبور السودان.
وقال أحمد إن بعض القادة في الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لا يسمحون للشاحنات التي تحمل المساعدات بالمرور عند الحواجز التي يديرونها وأن المقاتلين يتطلعون إلى انتزاع الرشاوى.
وسلمت منظمة الإغاثة الإسلامية 6 أطنان من الأدوية، ولكن كما يقول أحمد، “لا يستطيع الأطفال الانتظار لأسابيع للحصول على المضادات الحيوية”، والتي لها مدة صلاحية.
وصل أحمد إلى بورتسودان عبر نيروبي وإثيوبيا، حيث اضطرت الطائرة الصغيرة التي كان على متنها إلى التوقف للتزود بالوقود.
وفي مدينة البحر الأحمر وهي مكان صغير لم يتم بناؤها للتعامل مع عدد الذين يعيشون هناك الآن ارتفعت الأسعار بشكل هائل، حيث باتت وجبة غداء صغيرة تكلف الآن ما يصل إلى 20 دولاراً، مما يجعل السكان المحليين يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم.
وقال أحمد: “كل يوم، كنت أرى الحافلات والسيارات تصطف في طوابير وتدخل بورتسودان”.
وأضاف أنه كان بإمكانه رؤية أعلام تركيا ومصر وروسيا ترفرف على المباني، ولكل من الدول الثلاث سفارات أو قنصليات في بورتسودان ولديها علاقات وثيقة مع الحكومة السودانية الموالية للجيش.
وفي مخيم الصناعية والمدرسة على مشارف السودان، تقدم الإغاثة الإسلامية الغذاء والمياه والمأوى وتوزع النقود وتقدم برامج دعم نفسي واجتماعي للأطفال.
وأوضح أحمد: “نحن نقدم 200 دولار لكل أسرة عند وصولهم إلى المخيم، نفعل هذا كل شهر لمنحهم بعض الأسباب للعيش الكريم، بعض المانحين مترددون في تقديم هذه النقود، لكن ليس من السهل إيصال الطعام المطلوب”.
كان المقر الرئيسي للجمعية الخيرية في السودان يقع سابقاً في الخرطوم، لكن الحرب أجبرتها على الانتقال إلى بورتسودان، حيث تنفق 5000 دولار شهريًا على استئجار مبنى.
ووصلت الإغاثة الإسلامية إلى 1.1 مليون شخص وتأمل في الوصول إلى 2 مليون في الأشهر القليلة المقبلة.
وشهد أحد أعضاء فريق الخرطوم على رؤيته امرأة مسنّة معاقة تُقتل برصاص مقاتلي قوات الدعم السريع، الذين استولوا بعد ذلك على منزلها، في حين وصف أحد الناجين الآخرين في المخيم كيف أطلق المقاتلون النار على الناس دون تمييز.
وقال أحمد: “لقد وجدوا أطفالاً تُركوا بمفردهم في الغابة، الجيران يعتنون بالأطفال لأنهم لا يعرفون مكان آبائهم، لا نعرف ماذا يحدث، لقد سمعنا تقارير عن دفن جماعي”.
ووصف أحد الأطفال كيف دُفن الناس أحياءً، حيث أُلقي بهم ببساطة في حفرة وحاول تصوير ذلك في رسم.
تحدث أحمد إلى ثلاث نساء في بورتسودان تعرضن للاعتداء الجنسي، وقال: “ما رأيته في عيون النساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي، وقُتل أطفالهن أمام أعينهن، ووُضعت البنادق على رؤوسهن، ليس شيئاً تريد أن تراه في هذا القرن”.
ومع كل هذا الذي يحدث في وسط دارفور، يضطر فريق الإغاثة الإسلامية، الذي ينتمي إلى المجتمع المحلي، إلى العمل مع قوات الدعم السريع، التي تسيطر على الغالبية العظمى من دارفور.
وقال أحمد: “العلاقة مع قوات الدعم السريع كابوس”، والاتصال الهاتفي في السودان مروع أيضاً، وفي جميع أنحاء البلاد، تعطلت الإغاثة الإسلامية بسبب حقيقة أن شركة مايكروسوفت، التي تستخدم الجمعية الخيرية منتجاتها، محظورة بسبب العقوبات.
وعندما عاد أحمد إلى لندن، وجد صعوبة في وصف ما رآه في السودان.
وقال: “أود أن أقول، بصفتي عاملاً إنسانياً، إن الأيام الأربعة أو الخمسة الماضية أثرت عليّ حقاً، لقد ضربت دماغي بقوة، كنت أتحدث إلى زوجتي ولا أستطيع وصف الموقف”.
ومع الحرب في السودان، وحروب إسرائيل في لبنان وغزة وغزو روسيا لأوكرانيا، ربما تكون هذه واحدة من أكثر الأوقات كآبة التي شهدها العديد من العاملين الإنسانيين المخضرمين على الإطلاق.
ويتذكر أحمد الأطفال الذين التقى بهم في دارفور في عام 2005، قائلاً “ولدوا في المخيم والآن عادوا إلى هناك، هل هذا هو العالم الذي نحلم به جميعًا؟”.
ويقول أحمد: “يجب أن يكون هناك تدخل سياسي، يجب أن يكون هناك نهاية للعنف، يجب محاسبة الناس على فعل كل هذا لأناس أبرياء”.
وختم بالسؤال: “كيف يمكننا أن نسمح بحدوث هذا؟ وإلى متى؟ ستكون التكلفة جيلًا ضائعًا، جيلاً يريد الانتقام”.