الصراع التقليدي بين إيران وجيرانها في المنطقة هو- في جوهره- نوعان: صراع فارسي- عربي، قبل أن تتمذهب إيران بالمذهب الشيعي الاثني عشري عند مطلع القرن السادس عشر، ثم أضيف إليه صراع آخر،
هو الصراع السني- الشيعي منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا، وهما صراعان أبديان مزمنان، قبل الإسلام، وبعد الإسلام، وقبل التشيع، وبعد التشيع، وحتى اليوم، والغد القريب والبعيد.
أما الصراع الإيراني- الإسرائيلي، بالشكل القائم منذ قيام الجمهورية الإسلامية عقب الثورة الإيرانية 1979، فهو صراع طارئ مستجد، فهو في الأصل صراع عربي- إسرائيلي،
منذ ظهرت الفكرة الصهيونية وقبل قيام دولة إسرائيل، لكن العرب من زيارة القدس في نوفمبر 1977، ثم اتفاق السلام في كامب ديفيد 1978، ثم مفاوضات أوسلو 1993، ثم الاتفاقات الإبراهيمية 2020، يخرجون- بالتدريج من الصراع- ويدخلون السلام مع إسرائيل،
وقد تزامن ذلك مع الثورة الإيرانية، ثم قيام نظام الجمهورية الإسلامية، ثم سعي إيران لدور إقليمي مهيمن في الشرق الأوسط، بينما كانت الحكومات العربية ترى مصلحتها الوطنية في الخروج من الصراع والدخول في السلم، كانت إيران الإسلامية ترى مصلحتها في الخروج من السلم والدخول في الصراع، حيث ألغت العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، والتي تعود إلى عام 1950،
وأغلقت السفارة الإسرائيلية، وأعلنت خطاباً سياسياً عدائياً تجاه إسرائيل على النقيض، مما كانت عليه العلاقات قبل الثورة، بينما كانت سفارة إسرائيل في طهران يجري إغلاقها، كانت الترتيبات على قدم وساق لتدشين أول سفارة لها في العالم العربي. ورغم الخطاب الإيراني الصاخب ضد إسرائيل، فيما يقرب من نصف قرن إلا إنه- من الناحية العملية- كان الصراع في أكثره مع العرب،
وفي أقله مع إسرائيل حيث: أطول حرب في تاريخ القرن العشرين، كانت بين إيران والعرب 1980 – 1988، وحيث كان النصر الاستراتيجي الذي أحرزته إيران منذ مطلع القرن الحادي والعشرين هو نصر على العرب،
وليس على إسرائيل فقد تمددت وتسللت، وأحاطت بالمشرق العربي كله من العراق والشام والجزيرة العربية بكاملها؛ فباتت تحيط بعرب المشرق من كل الجهات إحاطة السوار بالمعصم، وحتى وهي- في هذه الفترة- تواجه إسرائيل بقوة، فإنها تواجهها بأدوات عربية، بتنظيمات من الشيعة العرب المتحالفين معها والموالين لها في اليمن والعراق ولبنان وسوريا وفلسطين ،
أدوات إيران في صراعها الحالي مع إسرائيل هي أدوات عربية وكوادر بشرية عربية وأراض عربية ، وربما لهذا السبب لا تكتفي إسرائيل بضرب الأدوات العربية في يد إيران، وتسعى- فوق ذلك- لنقل الحرب إلى الأرض الإيرانية بما عليها من سيادة وبشر وقدرات وإمكانات. تنظيمات مسلحة من الشيعة العرب، هم وقود الصراع بين إيران وإسرائيل.
استثمرت إيران في ضعف العرب أولاً؛ فأخذت موقعهم التاريخي، ثم استثمرت في أخطاء أمريكا ثانياً، إذ سقط عراق صدام الذي كان حائط صد وتوازن في الإقليم مع النفوذ الإيراني، ثم استثمرت في حاجة التنظيمات العربية المسلحة- شيعية وسنية- للتمويل والسلاح؛
فصنعت لنفسها كماشة حديدية ملتهبة، تطوق بها العالم العربي، وتواجه بها إسرائيل، وتشاغب بها أمريكا وأوروبا، ثم استثمرت في إحباطات الشعوب العربية اليائسة من حكوماتها، ثم الساخطة على إسرائيل، ثم الغاضبة من أمريكا وأوروبا.
إيران الشاه كانت الحليف الحبيب لإسرائيل وأمريكا، فمن طبيعة الأشياء ومنطق الأمور، أن تكون الثورة التي أسقطت الشاه، ثم الجمهورية الإسلامية التي ورثت دولة الشاه، أن تكون هذه وتلك على نقيض ما كان عليه الشاه، أي تكون ضد إسرائيل كما تكون ضد أمريكا،
وهذا توجه حقيقي وغير مفتعل وغير تمثيلي وغير مسرحي، فقبل عشرين عاماً من قيام الجمهورية الإسلامية كان الخميني معارضا جاداً وأصيلاً بل وعنيفاً ضد الشاه وضد العلاقات الودودة التي تربط الوثاق الحميم بين الشاه وكل من إسرائيل وأمريكا ،
كما أن توجهات الخميني في هذا الشأن، لم تكن فقط شاناً شخصياً يميزه، لكن كانت عاطفة سياسية عامة لدى عموم الشعب الإيراني على اختلاف توجهاته السياسية، هذه العاطفة هي القاسم المشترك الأعظم، ليس عند الشعب الإيراني وحده، لكن عند كافة الشعوب العربية والإسلامية، هذه العاطفة تجعل الصراع ليس فقط بين العرب وإسرائيل،
وليس فقط بين إيران وإسرائيل، ولكن هو صراع عربي إسلامي شامل من جهة في مواجهة إسرائيل وأمريكا ودول أوروبا الكبرى من الجهة الأخرى، هذه العاطفة تحاول إيران بكل جهدها الاستثمار فيها، فهي تكسر عزلتها المذهبية، كما تغطي على ديكتاتوريتها الداخلية،
كما تلفت الأنظار بعيداً عن تناقضاتها الداخلية الكامنة وأهمها: أن حياة المواطن الإيراني الاقتصادية والاجتماعية لم يطرأ عليها أي تحسن مادي أو أدبي، كما أن مجمل الحريات والحقوق السياسية والدستورية التي يتمتع بها المواطن،
لا تختلف عن السقف المتدني للحريات والحقوق في أي بلد شرق أوسطي متخلف، ولا يملك إمكانات إيران الطبيعية وثرواتها المادية، كما لا يملك ميراثها الحضاري الرائع والثقافي المتفرد، ثم هذه العاطفة الشعبية بين كافة شعوب العروبة والإسلام،
إنما هي قيمة أدبية تزدهر لحظات اشتداد المواجهة، ثم لا تلبث أن تخبو بعدها، ولا قيمة عملية لها إلا في حالة استثمارها على نحو صحيح، فقد سبق الرئيس عبد الناصر،
وبلغ الذروة في كسب عواطف شعوب هذه البلدان وخاطبهم حتى من فوق ومن تحت رؤوس حكامهم ودخل قلوبهم، حيث يمكن القول-
دون تجاوز- أن عبد الناصر، ما زال هو الزعيم الأكثر شعبية في العالمين العربي والإسلامي، لكن ذلك لم ينفعه في شيء حين قررت إسرائيل وأمريكا الانقضاض الشرس عليه، ثم افتراسه في ساعات معدودة من صباح الخامس من يونيو 1967.
السؤال: هل ينتهي الصراع الإيراني- الإسرائيلي على النحو الذي انتهى به الصراع العربي- الإسرائيلي؟
بين حرب 1967م، وزيارة القدس 1977 عشر سنوات فاصلة، انكسرت فيها شرعية عبد الناصر، بل انكسرت هيبته، وانكسرت معه أفكار الحركة الوطنية المصرية من ثورة عرابي، ثم ثورة 1919، ثم ثورة الضباط الأحرار، أي أفكار الاستقلال الوطني ومعادة الاستعمار ومواجهة النفوذ الأجنبي، انكسر كل ذلك دفعة واحدة في 1967م، ثم مع زيارة القدس 1977م،
بدأ تدشين نموذج قيادي جديد في العالم العربي، نموذج رفضه العرب في البداية وقاطعوه وحاصروه، لكن هو الآن بات النموذج المثالي الذي يؤمنون به ويتبعونه، مات السادات، وهو يعاني القطيعة والحصار العربي، ولكنه الآن حي نابض بالحياة في كل عواصم العرب تقريباً، دون استثناء، بعضهم ظاهر وأكثرهم خفي، وكلهم يستعد للظهور بوجه ساداتي في الوقت المناسب،
مع فارق أن السادات هو القائد العربي الوحيد الذي قاتل إسرائيل في حرب حقيقية في البر والبحر والجو، قاتلها بجيشه وشعبه، قاتلها بعد سنوات معدودة من هزيمة، لم يكن منها تعاف قريب، قاتلها وانتصر، هذا فارق ضخم بين السادات،
وكل من يسير على طريقه في السلام من العرب الآن، سلام السادات كان سلام مقاتل، كان سلام أمة مقاتلة، وهذا ما لا وجود له في حالة سلام بين دول عربية، ليس لها مع إسرائيل حدود، ولا قامت بينهما يوما حروب،
ولا خوف لأحدهما من غزو الآخر له، بل هو سلام غير مفهوم إلا من زاوية، أنه سعي وراء الأمان في إقليم، تقوده إسرائيل تحت كفالة أمريكا، ثم لا يمكن فهمه إلا من زاوية نظم حكم عائلية، تنشد البقاء باسترضاء أمريكا عبر التودد لإسرائيل، ثم لا يمكن فهمه إلا من زاوية الأمان تحت قيادة إسرائيل للإقليم خير من وضع مكشوف، تتعدد فيه المخاطر من الأشقاء الكبار، فتجربة الحرب بين العراق وإيران، تقول إن المسلمين بعضهم خطر على بعض،
وغزو العراق للكويت معناه، أن العرب بعضهم خطر على بعض، كما أن دول الخليج الصغيرة لا تفرق في حسابات المخاطر بين غزو محتمل من إيران أو العراق أو السعودية، ومعروف أن الكويت طلبت- من تلقاء نفسها عام 1899- أن تفرض عليها بريطانيا حمايتها والحماية شكل صريح من أشكال الاستعمار؛
خوفاً من الغزو السعودي الوهابي، كما أن الكويت تعرضت لغزو من الشقيق العربي في العراق، كل ذلك معناه، أن إيران ليست هي الخطر الوحيد، الذي جعلها الخطر الأكبر الآن هو أخطاء الغزو الأمريكي لأفغانستان، ثم العراق، حيث أزاحت اثنين من أكبر قوى التوازن السنية في وجه إيران.
لهذا لن تتكرر مع إيران ما تم مع مصر عبد الناصر، سوف يتم استنزاف إيران، لكن دون إسقاطها، هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.