تقاريرمصر

الأطفال اللقطاء .. كارثة أخلاقية وإنسانية تُلقي بظلالها القاتمة على المجتمع المصري

الصور التي تتراءى أمام أعيننا لطفل صغير ملفوف في قطعة قماش مهملة، ملقى أمام باب مسجد أو داخل صندوق قمامة، ليست مجرد مشاهد سينمائية تثير التعاطف، ولا هي فصول من رواية خيالية.

بل هذه الصور المؤلمة تعكس واقعاً مظلماً يعيشه آلاف الأطفال اللقطاء في مصر. هم أطفال ولدوا من علاقات غير شرعية، يعيشون في الظل، بلا اسم ولا نسب ولا حقوق، وهم ضحايا مجتمع لم يوفر لهم الحماية أو العدل.

هؤلاء الأطفال، ضحايا ظروف اجتماعية وإنسانية مروعة، يدفعون ثمناً باهظاً لذنب لم يرتكبوه. بينما يتلقى أقرانهم الرعاية والحب داخل أسرهم، يجد هؤلاء الأطفال أنفسهم متروكين بلا رحمة في الشوارع أو على أبواب المساجد، يُواجهون خطر الكلاب الشاردة، والظروف المناخية القاسية، وأحياناً الموت.

هذه الظروف غير الإنسانية تؤدي إلى نمو مشاعر الكراهية والعنف بداخلهم، كرد فعل على الظلم والإهمال الذي يتعرضون له. كيف لا، وهم لا يرون من العالم سوى القسوة والنبذ؟

ورغم التقدم الذي شهده العالم في مجالات حقوق الإنسان، إلا أن مصر ما زالت تعاني من تفاقم ظاهرة الأطفال اللقطاء. فقد تعالت في الآونة الأخيرة دعوات تطالب بضرورة إصدار قانون لإثبات نسب هؤلاء الأطفال باستخدام وسائل علمية حديثة مثل تحليل الحمض النووي والبصمات الوراثية.

هذا القانون لا يهدف فقط إلى حماية حقوق هؤلاء الأطفال، بل إلى إجبار الآباء الحقيقيين على تحمل مسؤولياتهم، وإعطاء الأطفال الحق في أن يحملوا شهادة ميلاد وهويتهم القانونية.

ولكن القضية ليست فقط في إصدار القوانين، بل تتعلق بجذور المشكلة التي تتفاقم يوماً بعد يوم. الأسباب التي تؤدي إلى تزايد أعداد الأطفال اللقطاء في مصر هي بالأساس اجتماعية واقتصادية. فالفقر يشكل عاملاً رئيسياً في تفشي هذه الظاهرة.

العديد من الأسر تعيش تحت وطأة ضيق العيش، مما يجعلها غير قادرة على رعاية أطفالها بشكل لائق. وفي حالات أخرى، يكون الأطفال نتاج علاقات غير شرعية، حيث يسعى الأطراف المعنية إلى التخلص من الطفل خوفاً من العار الاجتماعي.

وتظل بعض العادات الجاهلية قائمة، حيث يرفض البعض الاعتراف بالإناث أو يتخلصون منهن بناء على معتقدات اجتماعية بالية.

رغم أن هناك دور رعاية تُقدّم خدمات للأيتام ومجهولي النسب، إلا أن هذه المؤسسات لا تعوض الطفل عن فقدان الأسرة. يعيش هؤلاء الأطفال حياة مليئة بالحزن والأسى، يعانون من شعور دائم بالنقص والاختلاف.

تتراود في أذهانهم يومياً أسئلة لا يجدون لها إجابات: من أنا؟ من هم أهلي؟ لماذا أنا هنا؟ هذه الأسئلة تؤثر على نفسيتهم، وتلاحقهم من الطفولة إلى البلوغ، مما يجعلهم عرضة لاضطرابات نفسية واجتماعية قد تؤثر على مستقبلهم.

إصدار قانون لإثبات نسب الأطفال اللقطاء لن يكون حلاً سحرياً، ولكنه خطوة أولى نحو تقديم الحماية والعدالة لهم. هذا القانون يمكن أن يسهم في تعزيز استقرارهم العاطفي والنفسي، مما يقلل من مخاطر الاضطرابات الجنسية والاجتماعية التي قد يواجهونها.

كما أن دعم هؤلاء الأطفال وتوفير الرعاية اللازمة لهم سيحد من ظاهرة أطفال الشوارع ويخفف من الأعباء الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها الدولة.

إن رعاية الطفولة تعد من أهم القضايا في الفكر الاجتماعي المعاصر. الأطفال اللقطاء أو مجهولو النسب ليسوا مجرد أرقام في إحصائيات الدولة، بل هم أفراد يحتاجون إلى الحماية والرعاية.

يعيش معظم هؤلاء الأطفال في الشوارع أو في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، التي تديرها جهات حكومية أو جمعيات أهلية. ولكن رغم هذه الجهود، ما زال هؤلاء الأطفال يعانون من مشاكل تتعلق باندماجهم في المجتمع. النظرة الإقصائية التي يواجهونها تجعلهم يشعرون بالعزلة والفشل في التكيف مع المجتمع.

هذه النظرة السلبية نحو الأطفال اللقطاء تزيد من حجم الفجوة بينهم وبين المجتمع، مما يزيد من احتمال تعرضهم للتهميش والإقصاء.

لذا فإن المطالبات بإصدار قانون لإثبات نسب هؤلاء الأطفال تبدو ضرورية، ليس فقط لحماية حقوقهم، بل لإعطائهم فرصة حقيقية للاندماج في المجتمع. هؤلاء الأطفال لا يستحقون أن يُنظر إليهم كعبء، بل كأفراد يستحقون الرعاية والاهتمام ليصبحوا مواطنين صالحين ومنتجين.

ويأتي هنا دور الدين، حيث يحرم الإسلام إلقاء الأطفال في الشوارع أو التخلي عنهم بسبب الفقر أو الفضيحة. هذا الفعل يعد انتهاكاً للأمانة الإنسانية والدينية.

كما أن الإسلام يدعو إلى كفالة اليتيم والاهتمام به، فكيف إذا كان الطفل مجهول النسب، وهو أشد حاجة للرعاية والحنان. ومع ذلك، يشدد العلماء على ضرورة عدم نسبة الطفل اللقيط إلى من تبناه، لأن ذلك يعتبر كذباً وتزويراً، وقد يؤدي إلى اختلاط الأنساب وحرمان الورثة الشرعيين من حقوقهم.

وفي إطار البحث عن حلول، تؤكد دار الإفتاء المصرية على جواز منح الطفل المكفول لقب العائلة الكافلة، ولكن بشرط أن يكون ذلك مجرد انتماء شكلي للعائلة دون تدليس أو تزوير في النسب. هذا الحل يتيح للطفل شعوراً بالأمان والاستقرار، دون أن يؤدي إلى انتهاك الشرع.

إن مسألة الأطفال اللقطاء ليست مجرد قضية اجتماعية، بل هي قضية أخلاقية وقانونية تتطلب اهتماماً جدياً من قبل الدولة والمجتمع.

هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى حماية قانونية، وأوراق ثبوتية تحدد هويتهم وحقوقهم. فوفقاً للدستور المصري، يحق لكل طفل أن يحصل على اسم، وأوراق تثبت هويته، وحقه في التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية.

ويجب أن نواجه الحقيقة المؤلمة: جريمة إلقاء الأطفال في الشوارع ليست مجرد خطأ أخلاقي، بل هي جريمة يعاقب عليها القانون.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى