في ظل استمرار تفاقم الأوضاع الاقتصادية في مصر وغياب أي استراتيجية جديدة لإصلاحها، يجد المواطن المصري نفسه محاصرًا بتكاليف معيشية تزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
منذ عام 2022، تشهد مصر موجة غير مسبوقة من التضخم، تتزامن مع انخفاض الدخل وزيادة معدلات الفقر بشكل ملحوظ.
ومع استمرار الأزمات العالمية والمحلية، لا يبدو أن الحكومة قادرة على تقديم أي حلول ناجعة لتخفيف الأعباء عن كاهل الأسر المصرية، مما دفعها إلى اللجوء لسياسات تزيد الوضع سوءًا من خلال التوسع في الاقتراض والاعتماد على الجباية الكاملة.
تضخم يلتهم الاقتصاد والأسر
وفقًا لبيانات حديثة، ارتفع معدل التضخم الحضري السنوي في مصر إلى 26.4% في سبتمبر 2024 مقارنة بـ26.2% في الشهر السابق، متجاوزًا توقعات السوق البالغة 25.9%. هذه الأرقام الكارثية تمثل أعلى مستوى للتضخم منذ يونيو، وهي تتجاوز بكثير هدف البنك المركزي المصرى الذي يتراوح بين 5% و9%.
هذه الفجوة الكبيرة بين الواقع الاقتصادي والأهداف الرسمية تعكس فشل الحكومة في إدارة التضخم. الأسعار ترتفع بوتيرة لا تترك مجالاً للمواطن للتنفس؛ الوقود شهد زيادة تصل إلى 15% في يوليو 2024، وتبعها ارتفاع أسعار تذاكر المترو بنسبة تتراوح بين 25% و33% في أغسطس، ثم زيادة أخرى في تعريفة الكهرباء بنسبة تصل إلى 31% خلال أغسطس وسبتمبر.
كل هذا يحدث في وقت تتراجع فيه أسعار بعض السلع الغذائية، لكن ذلك لا يمثل أي عزاء للأسر التي تكافح لتغطية احتياجاتها الأساسية.
أزمة الاقتراض والديون تغرق الاقتصاد
عوضًا عن تبني سياسات تهدف إلى دعم الاقتصاد الحقيقي، اختارت الحكومة المصرية منذ سنوات الاعتماد المكثف على القروض الخارجية.
من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي، أصبحت هذه القروض عبئًا إضافيًا على المواطنين. لكن المشكلة الأكبر تكمن في كيفية استخدام هذه الأموال.
فبدلاً من توجيهها إلى استثمارات تدر عوائد مادية تساعد على تسديد تلك الديون، تم توجيه جزء كبير من الأموال إلى مشروعات البنية التحتية مثل الطرق والكباري والمدن الجديدة، وهي مشروعات لا تقدم أي عائد اقتصادي ملموس يمكن أن يساعد في تقليص الديون أو تحسين مستوى المعيشة.
هذا التوجه الخاطئ في استخدام القروض لا يخفف من عبء الديون بل يزيده، مما يضطر الحكومة إلى الاعتماد على وسائل أخرى لتمويل احتياجاتها المالية، وأبرز هذه الوسائل هو الجباية.
الاعتماد على الضرائب، وفرض رسوم جديدة، والتوسع في الجباية الكاملة بات السياسة الرئيسية لتعويض عجز الميزانية، لكن هذا الحل لم يعد يحتمله المواطن البسيط الذي يعاني أصلاً من ارتفاع الأسعار وتدني الأجور.
أزمة التضخم والفساد المالي
أن ما تشهده مصر من تفاقم التضخم وتحميل المواطنين أعباء الديون الداخلية والخارجية لم يكن مفاجئًا. جميع التجارب السابقة لدول مثل البرازيل تؤكد أن الاعتماد المكثف على القروض دون استثمارها في مشاريع ذات عوائد مادية هو طريق مباشر نحو الكارثة الاقتصادية.
هذه التجارب توضح أن على الحكومات استخدام القروض في تطوير مشاريع تساهم في النمو الاقتصادي وليس في استنزاف الموارد.
لكن مصر لم تتعلم من هذه التجارب، بل اختارت السير في الطريق الخاطئ، مما أدى إلى تحميل المواطن البسيط أعباءً إضافية.
أن الأزمات العالمية، مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى الصراعات الإقليمية مثل حرب السودان والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، زادت من تفاقم الوضع الاقتصادي في مصر.
هذه الأزمات ألقت بثقلها على اقتصاد هش يعاني أصلاً من اختلالات هيكلية، وزاد الأمر سوءًا عدم تلقي مصر أي مساعدات دولية لمواجهة هذه التحديات.
قناة السويس والمصانع المتوقفة
وفي ظل هذه الظروف الصعبة، تأتي كارثة أخرى لتزيد من تعقيد المشهد: انخفاض إيرادات قناة السويس التي كانت تعد واحدة من أهم مصادر الدخل القومي.
إلى جانب ذلك، توقفت آلاف المصانع منذ ثورة يناير 2011، وهو ما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الاستيراد، مما يزيد من العجز التجاري ويؤدي إلى تدهور العملة المحلية.
قانون الضرائب الجديد: هل يفلح في إنقاذ الاقتصاد؟
في ظل هذا الواقع الكئيب، أقر البرلمان المصري قانونًا جديدًا للضرائب، وسط آمال من بعض الاقتصاديين بأن يكون هذا القانون طوق نجاة للاقتصاد المصري.
لكن ما إذا كان هذا القانون سيفلح في تخفيف الأعباء عن كاهل المواطن أو تحسين الوضع الاقتصادي لا يزال محل شك كبير.
الفكرة الرئيسية وراء القانون هي زيادة الإيرادات الحكومية، ولكن إذا لم يُطبق بشكل عادل وشفاف، فقد يكون هذا القانون مجرد وسيلة أخرى لزيادة الضغط على المواطن البسيط.
بريكس: طوق النجاة المنتظر؟
من بين التطورات الإيجابية المحتملة، انضمام مصر إلى تكتل “بريكس” الذي يضم مجموعة من الاقتصادات الناشئة. يرى بعض الخبراء أن هذا الانضمام يمكن أن يسهم في تعزيز الاقتصاد المصري من خلال فتح آفاق جديدة للتعاون التجاري والاستثماري، بالإضافة إلى الاستفادة من العملة الموحدة التي يسعى التكتل إلى تطبيقها.
يمكن أن يتيح بريكس لمصر فرصًا للاقتراض بشروط أفضل من تلك التي تفرضها المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، وهو ما قد يخفف بعض الضغط على الموازنة العامة للدولة.
أسعار الفائدة: هل يتأخر الخفض؟
تأجيل خفض أسعار الفائدة الذي كان متوقعًا منذ فترة طويلة يعكس الفوضى التي يعيشها الاقتصاد المصري. منذ عام 2020 لم يتم خفض أسعار الفائدة، والسبب في ذلك يعود جزئيًا إلى استمرار التضخم بمعدلات تفوق التوقعات.
إذا كان الهدف الرئيسي من زيادة أسعار الفائدة هو مكافحة التضخم، فإن الأرقام الحالية تشير إلى أن هذه السياسة لم تحقق أهدافها. في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد من الركود، تجد الحكومة نفسها محاصرة بسياسات تزيد الوضع سوءًا.
حلول بعيدة المنال
لا يبدو أن هناك حلولا سريعة أو سهلة للأزمة الاقتصادية التي تواجهها مصر. لتحسين الأوضاع، يحتاج الاقتصاد إلى إصلاحات جذرية تركز على تحقيق استقرار سعر الصرف، وتفعيل أدوات نقدية أكثر فعالية لمكافحة التضخم، وتجنب السياسات التي تؤثر سلبًا على الاستثمار والإنتاج.
لكن هذه الإصلاحات وحدها لن تكون كافية. من الضروري أن تتبنى الحكومة سياسات اجتماعية أكثر عدالة تهدف إلى تخفيف العبء عن الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.
من بين هذه الحلول المحتملة تطوير برامج حماية اجتماعية فعالة، وزيادة الدعم الغذائي، وتثبيت أسعار السلع الأساسية، وتعزيز الرقابة على الأسواق لمنع استغلال التجار للمواطنين.
كما أن زيادة الحد الأدنى للأجور والمعاشات، وتقديم تسهيلات ضريبية للأسر الفقيرة، يمكن أن يساهم في تحسين مستوى المعيشة.
الأمل في السياحة والاستثمار الأجنبي
على الرغم من كل هذه التحديات، لا يزال هناك بعض الأمل في إنعاش الاقتصاد المصري من خلال تطوير قطاعات مثل السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر.
مصر تتمتع بإمكانات سياحية هائلة، لكن هذا القطاع تعرض لضربات متتالية منذ ثورة يناير وما تلاها من اضطرابات سياسية وأمنية.
إن تحسين الظروف الأمنية والسياسية يمكن أن يسهم في جذب مزيد من السياح والاستثمارات الأجنبية، مما يساعد على تحسين الوضع الاقتصادي.
أزمة لا تعرف النهاية
الوضع الاقتصادي في مصر يبدو وكأنه يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم. التضخم مستمر في الارتفاع، والديون تتراكم بشكل لا يمكن تحمله، والسياسات الحكومية تبدو عاجزة عن تقديم حلول جذرية.
في ظل غياب رؤية اقتصادية واضحة، يبقى المواطن المصري هو الضحية الأكبر لهذه الأزمة المستمرة. فهل ستتمكن الحكومة من إيجاد حلول حقيقية لهذه الكارثة الاقتصادية، أم أن الأمور ستزداد سوءًا وتستمر الأسر المصرية في دفع الثمن؟