تتجلى مأساة المحميات الطبيعية في مصر حيث تكمن ثروة وطنية مهملة تصارع من أجل البقاء وتحتاج إلى إنقاذ عاجل وسط صمت حكومي مريب.
ورغم الإعلان عن 30 منطقة محمية طبيعية منذ عام 1983 إلا أن الفشل في استثمار هذه الثروات يبرز كأحد أكبر الأخطاء التنموية في البلاد. في الوقت الذي يتباهى فيه العالم بتنوعه البيولوجي الغني، تظل المحميات المصرية محصورة بين أسوار الإهمال والفوضى.
تغطي شبكة المحميات الطبيعية 15.5٪ من مساحة مصر، وتحتضن تنوعًا بيولوجيًا نادرًا يفتقر إلى الاهتمام الكافي من قبل الجهات المعنية. في الواقع، المحميات لا تقتصر على كونها مواقع طبيعية فقط، بل تمثل أماكن غنية بالتراث الثقافي والتكوينات الجيولوجية الفريدة التي يمكن أن تكون محط اهتمام علمي وسياحي واسع. لكن الغريب أن ذلك لم يتم الاستفادة منه حتى الآن.
تنقسم المحميات المصرية إلى أربع فئات رئيسية تشمل المحميات البحرية والأراضي الرطبة والصحراوية والجيولوجية. كل فئة تحتوي على مكونات حيوية تستحق الاستثمار، لكن الافتقار للإدارة الفعالة يضرب كل تلك الجهود في مقتل. المحميات غنية بالشعاب المرجانية والطيور النادرة والثدييات البحرية، لكن لم تُفعّل بعد برامج الاستغلال المستدام لها.
قوانين المحميات، على الرغم من وجودها، تعاني من ضعف التنفيذ، مما يعني أن فرص الاستفادة الاقتصادية من هذه المناطق تظل بلا قيمة. المحميات لم تكن هدفًا لاستثمارات كبيرة أو حتى لمشاريع تطوير سياحي تتماشى مع إمكاناتها الفريدة. فكيف يمكن لبلد أن يهدر مثل هذه الثروات الطبيعية دون أي محاولات جدية للتغيير؟
الآراء والتوجهات:
تشير آراء الخبراء إلى أن المحميات الطبيعية تشكل كنزًا قوميًّا ينتظر الاستغلال الصحيح، لكن ذلك يتطلب رؤية جديدة وإدارة فعالة. الدكتورة وفاء عامر، الخبيرة السابقة في حماية الطبيعة، أكدت أن الفرص كبيرة إذا ما تم تفعيل التنوع البيولوجي في المحميات، من خلال برامج تحسين السلالات وتربية الأنواع النادرة. فالمحميات قادرة على توفير فرص عمل ودخل للمجتمعات المحلية، ولكن الحكومة تحتاج إلى خطوات ملموسة لتعزيز ذلك.
تحديات التنفيذ لا تقف عند حدود إهمال البنية التحتية، بل تمتد إلى غياب الوعي المجتمعي بأهمية هذه المحميات. إذ تظل الثقافة البيئية غائبة عن المناهج الدراسية، مما يؤثر سلبًا على إدراك الأجيال الجديدة لمكانة هذه الثروات. يجب على الحكومة أن تتخذ خطوات جدية للترويج لثقافة زيارة المحميات وزيادة الوعي بين الطلاب عن أهميتها.
حكايات النجاح المفقودة:
النجاحات العالمية في استثمار المحميات يجب أن تكون مثالًا يحتذى به. تجارب دول مثل كينيا وتايلند في إدارة المحميات وتحويلها إلى وجهات سياحية بارزة يجب أن تُدرس وتُستنسخ. فالترويج الإيجابي للمحميات يمكن أن يخلق تدفقًا للسياحة البيئية التي تساهم في الاقتصاد القومي. لكن هذا يتطلب استثمارًا ضخمًا في الترويج والتسويق والتطوير.
من الواضح أن المحميات المصرية تعاني من حالة من الفوضى والتعديات، حيث تضررت بشكل كبير منذ عام 2011. المحميات لا تزال معرضة لخطر التعديات العمرانية والبيئية، مما يطرح تساؤلات حول جدوى القوانين الموجودة. يجب أن يتحرك جهاز شؤون البيئة بشكل أسرع لحماية هذه الثروات من الإهمال، بينما ينبغي فرض عقوبات صارمة على من يتسبب في تدمير البيئة.
الغابة المتحجرة:
محمية الغابة المتحجرة، على الرغم من تاريخها العريق، تعاني من الإهمال. هذا المكان، الذي يحمل آثارًا تعود إلى 85 مليون سنة، يتعرض لاعتداءات عديدة. بقايا الأشجار المتحجرة هناك ليست مجرد حجارة، بل هي شهادة على تاريخ الأرض. لكن بفضل غياب الرقابة الفعالة، تحولت المنطقة إلى ساحة للإهمال.
تمتلك مصر مقومات تجعل من الغابة المتحجرة وجهة مميزة للدراسات العلمية والسياحة البيئية، لكن الحكومة لم تستغل ذلك بالشكل الأمثل. يجب أن يكون هناك مشروع تطوير شامل يستهدف إعادة تأهيل المحمية، مع تيسير الوصول إليها وتوفير معلومات وافية للزوار. لكن حتى الآن، تبقى المنطقة تحت وطأة الفوضى وعدم الاكتراث.
رأس محمد:
محمية رأس محمد، واحدة من أبرز المحميات، تحتل مرتبة خاصة بين المحميات البحرية العالمية. تقع في نقطة التقاء خليجي السويس والعقبة، وتعتبر جنة للغواصين. ولكن، هناك الكثير من العمل المطلوب لتحسين الخدمات والبنية التحتية. فالزوار الذين يأتون لزيارة هذه الجوهرة يجب أن يجدوا خدمات على مستوى توقعاتهم، لكن ما يحدث هو العكس تمامًا.
محمية رأس محمد تعاني من قلة الوعي حول أهمية البيئة البحرية، إذ لا يزال الكثير من الزوار يجهلون ثرواتها البيولوجية. لذلك، ينبغي على الحكومة العمل على ترويج المحمية عبر الحملات الإعلانية والتسويق الجيد لجذب المزيد من السياح وتحفيز الاقتصاد المحلي. فالتخطيط الجيد يمكن أن يحول هذه المنطقة إلى وجهة رئيسية.
وادي الريان:
تعتبر محمية وادي الريان ملاذًا للطيور المهاجرة، لكن هذه الثروة تعاني من الإهمال. توجد الكثير من الأنشطة المائية والبرية التي تجذب الزوار، ولكن تفتقر المنطقة للبنية التحتية الملائمة. المياه النظيفة والمناظر الطبيعية الخلابة تتطلب اهتمامًا أكبر، لكن على ما يبدو، فإن الحكومة لا تعطيها الأولوية.
يجب أن يتم تنفيذ مشروعات تطوير عاجلة، تشمل تحسين المرافق العامة وتوفير الخدمات للزوار. فبغض النظر عن الجمال الطبيعي للمنطقة، تبقى الإدارة الفعالة غائبة. إذ لا يمكن انتظار زيادة الإقبال السياحي في ظل تلك الظروف. إن تحسين وتطوير وادي الريان يجب أن يكون من الأولويات، لأنه يمثل جزءًا مهمًا من التراث الطبيعي المصري.
وادي دجلة:
محمية وادي دجلة تعتبر جوهرة مخفية، ولكن الإهمال الذي تعاني منه قد يضعف من قيمتها. الموقع الممتاز يجعل منها نقطة جذب للزوار، لكنها تفتقر إلى الحملات الدعائية المناسبة. تلك المحمية تعتبر مثالية لمحبي المغامرة والتخييم، لكنها لم تحصل على الاهتمام الكافي من السياح.
يجب أن يتم تعزيز الوعي بأهمية وادي دجلة كوجهة سياحية بيئية. تنظيم فعاليات ورحلات مدرسية يمكن أن يساعد في تشجيع الناس على زيارة المحمية. إذا تم تعزيز الخدمات وتطوير البنية التحتية، فستتحول المحمية إلى مكان نابض بالحياة يجذب الزوار من جميع أنحاء العالم.
ولا يمكن إنكار أن المحميات الطبيعية في مصر تمثل ثروة وطنية حقيقية. لكن الإهمال والفوضى الحاكمة يحولان دون استغلال تلك الثروات بشكل صحيح. على الحكومة أن تعي أهمية تلك المحميات كجزء من الهوية الوطنية والاقتصاد. مع وجود رؤية واضحة وإدارة فعالة، يمكن للمحميات أن تصبح مصدرًا للدخل القومي، بدلاً من أن تظل كنزًا مهدورًا.