تاريخ مصر مليء بالتحولات المفصلية والأزمات المالية التي أثرت على حياتها وشعبها وفي هذا السياق يبرز الفساد الذي يعاني منه النظام الحالي في ظل حكم عبد الفتاح السيسي حيث باتت الديون الخارجية تتجاوز 166 مليار دولار وفقاً لتقارير فوربس
مما يعيد إلى الأذهان تجربة الخديوي إسماعيل الذي أغرق البلاد في مستنقع الديون قبل الإطاحة به وأيضاً قبل أن تضعها الدول الأوروبية تحت الوصاية مما أدى إلى احتلالها من قبل بريطانيا.
في السنوات العشر الأخيرة شهدت مصر قفزات مذهلة في قيمة الديون التي تضاعفت ثلاث مرات منذ تولي السيسي الحكم إذ ارتفعت من 46 مليار دولار خلال فترة الرئيس المؤقت عدلي منصور إلى 166 مليار دولار حالياً وزاد الدين الخارجي بمقدار 12.3 مليار دولار في الربع الأول من عام 2022 بمعدل 8.5 في المئة وفقاً للبنك المركزي.
تحمل ميزانية 2021/2022 أرقاماً كارثية حيث تقدر الفوائد المطلوبة عن القروض المحلية والأجنبية بنحو 579.6 مليار جنيه أي ما يعادل 3.7 مليار دولار بينما يصل إجمالي أقساط وفوائد الديون المستحقة إلى 1.172 تريليون جنيه أي 7.5 مليار دولار مما يشكل عبئاً هائلاً على الاقتصاد المصري.
يعود التاريخ إلى عهد الخديوي إسماعيل الذي استلم الحكم وكانت ديون مصر حينها تبلغ 11 مليون وستين ألف جنيه إسترليني أما بعد ثمانية عشر عاماً من حكمه فقد وصلت الديون إلى حوالي 127 مليون جنيه إسترليني ومع كل أزمة مالية كان الإسماعيل يلجأ إلى الاقتراض بفوائد مرتفعة تتراوح بين 6 و7 في المئة ولكن الفوائد الحقيقية كانت تصل إلى 12 و26 و27 في المئة مما أدى إلى استنزاف موارد البلاد المالية بشكل غير مسبوق.
أثرت القروض بشكل مباشر على توازن الميزانية وأفقدت الدولة القدرة على تلبية احتياجاتها الأساسية فقد استحوذت فوائد الديون على 70 في المئة من موارد الدولة مما أدى إلى حالة من الفقر المدقع في أوساط الشعب وقد أصبحت إيرادات البلاد موجهة بالكامل إلى سداد الديون بدلاً من تحسين الوضع المعيشي للمواطنين.
لم تكن حكومات الخديوي إسماعيل قادرة على إدارة الأموال بشكل سليم إذ عانت البلاد من فساد إداري واضح حيث كانت معظم الإيرادات تتحول إلى صندوق الدين لسداد فوائد المرابين مما أضعف القدرة على إنفاق الأموال على مشروعات تنموية حقيقية. وعلى نحو مشابه لا يبدو أن هناك تفاؤلاً كبيراً حول إدارة الحكومة الحالية للأموال العامة.
كان الإسماعيل يميل إلى الإسراف في بناء القصور الفخمة إذ أقام نحو ثلاثين قصراً بتكاليف خيالية حتى وصلت النفقات إلى الملايين من الجنيهات حيث كانت كل تفصيلة تحمل تكلفة إضافية تساهم في زيادة الديون. واليوم يسير السيسي على نفس الدرب إذ يتلقى انتقادات حادة لبنائه قصور رئاسية جديدة وهو يبرر ذلك بقوله أنه يبني دولة جديدة.
في العاصمة الإدارية الجديدة يتم بناء قصر رئاسي يمتد على 50 ألف متر مربع أي عشرة أضعاف مساحة البيت الأبيض بينما قدرت تكلفة الطابق الواحد فيه بحوالي مليار و250 مليون جنيه. وقد تم اعتقال شاب في سبتمبر 2022 بسبب التقاطه صوراً للقصر قيد الإنشاء مما يسلط الضوء على مستوى الرقابة والتشدد في النظام الحالي.
تظهر مشروعات مثل بناء قصر الرئاسة الجديد ومدينة العلمين الجديدة نفقات باهظة تتجاوز قدرة البلاد الاقتصادية حيث تم تصميم قصر العلمين على نمط قصر رأس التين مما يعكس نمط البذخ الذي تمارسه الحكومة على الرغم من الأزمات المالية التي تعاني منها البلاد.
لا يختلف الوضع في مصر اليوم عن الماضي القريب فالسيسي استخدم الاقتراض بشكل مفرط لدعم مشروعات لا تعود بالفائدة الحقيقية على الاقتصاد حيث تجاوزت تكلفة قناة السويس الجديدة 14 مليار دولار بينما كانت النفقات على تطوير البنية التحتية مشكوكاً في جدواها الاقتصادية.
تشير التوقعات إلى أن الديون ستؤثر على الفئات الأكثر فقراً حيث أظهر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن معدل الفقر في مصر بلغ 29.7 في المئة عام 2020 أي حوالي 30 مليون مصري مما يعني أن سياسة الحكومة الحالية تساهم في تفاقم الأوضاع المعيشية.
تحت ضغط صندوق النقد الدولي الذي يشترط شروطاً قاسية على الحكومة المصرية لنيل قروض جديدة تصبح الحكومة ملزمة بإجراء إصلاحات قد تشمل تخفيض الدعم وزيادة الضرائب على المواطنين. يتعرض الفقراء لمزيد من الضغط في ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة مما يضعهم أمام واقع مرير.
يطرح المشهد الحالي تساؤلات حول مدى حكمة الحكومة في التعامل مع القروض ومدى حاجة البلاد إليها خصوصاً بعد تلقيها مساعدات مالية من دول مثل السعودية وأبوظبي. يبدو أن الحكومة تتجه نحو مزيد من القروض رغم تزايد الديون مع شروط تتضمن تخفيض قيمة الجنيه وزيادة الضرائب على المواطنين.
تعكس سياسة الإصلاح الاقتصادي الحالية استمرار تزايد الفقر وتراجع مستويات المعيشة في مصر حيث يسعى صندوق النقد الدولي إلى فرض قيود تعسفية تضر الطبقة الوسطى والفقراء دون أي اعتبار لتحسين أوضاعهم المعيشية مما ينعكس سلباً على المجتمع.
ويبدو أن الوضع الراهن يذكرنا بأزمات تاريخية مشابهة حيث صرح القنصل البريطاني في نهاية عهد الخديوي إسماعيل بأن الخزينة خاوية وأن الجيش لم يتلق مرتباته لفترات طويلة مما يثير قلقاً عميقاً حول مصير المصريين اليوم مع تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.