قطب العربي يكتب : كيف يمكن توطين الديمقراطية في منطقتنا؟
رغم أن دولنا العربية تقع في القلب من أمة عرفت الشورى، وتتعبد بتلاوة الآيات القرآنية التي وردت بشأنها، إلا أنها ظلت مخاصمة لهذه الشورى وتطبيقاتها الحديثة في الديمقراطية، وظلت عصية على أي موجة ديمقراطية وآخرها الربيع العربي بموجاته الثلاث(الأولى والأشهر في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، والثانية في العراق ولبنان، والثالثة في الجزائر والسودان).
ظلت الديمقراطية حلما يراود الكثيرين، ويتحركون لتحقيقه دافعين أثمانا كبيرة في سبيل ذلك، لكن ما تحقق منها ( باستثناء فترات قصيرة استثنائية عقب الربيع العربي)كان هامشا على هامش الديمقراطية،
مجرد أشكال ديكورية لانتخابات محسومة النتائج سلفا، وإن سمحت بتمثيل هامشي لقوى أو شخصيات معارضة لكنها ضعيفة التأثير على القرار السياسي.
استعصاء عربي غريب
الناظر للخارطة الدولية يجد أن منطقتنا العربية هي الأكثر استعصاء على الديمقراطية، تحررت دول أمريكا الجنوبية من الاستبداد وتحررت دول أوروبا الشرقية كذلك بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وتحررت الكثير من الدول الأفريقية من أنظمة حكمتها عقودا، وظلت دولنا العربية رهينة الاستبداد سواء في شكله الوراثي أو الجمهوري،
وحين أتتها الفرصة على طبق من ذهب في ثورات الربيع العربي لم تتمسك بمكتسباتها الديمقراطية، ورغم أن قطاعات منها قاومت الثورات المضادة، ودفعت ثمنا باهظا؛ قتلا أو حبسا أو نفيا أو مصادرة أموال وممتلكات، إلا أن قطاعات أخرى لم تول هذا الأمر اهتمامها، وانطلت عليها الدعايات الكاذبة للثورة المضادة، فصفقت للديكتاتورية في مهد أكبر وأهم ثورتين (مصر وتونس).
قبل ثورة يناير كان رجال نظام مبارك يرددون جملة أن الشعب غير مهيأ للديمقراطية، قالها أحمد نظيف رئيس الوزراء الأسبق، ورددها من خلفه العديد من أبواق النظام، كنا نرد عليهم في حينه أنكم أنتم غير المستعدين للديمقراطية فيما الشعب في غاية الاشتياق، يبدوا أن تلك المقولة كان لها بعض الوجاهة للأسف، وهو ما أثبتته الفترة التالية لثورة يناير والانقلاب عليها.
ثورات الربيع العربي كانت في جانب منها إحدى ثمار ثورة الاتصالات، التي مكنت الشباب من التواصل بسهولة، وكسر الحواجز التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية، وقد تمكنوا عبر صفحات التواصل من الحشد والتعبئة للنزول إلى الشوارع وفق مسارات محددة،
كانت الأنظمة لا تزال متخلفة خطوات عن وعي الشباب، وكانت لا تزال تقلل من أهمية اتصالاتهم وشبكاتهم لكنها فوجئت بهم في الميادين دون أن يكون للأجهزة الأمنية الاستعداد الكافي لمواجهتهم، كان درسا بليغا لأنظمة الثورات المضادة التي أولت تكنولوجيا المعلومات أولوية بعد ذلك حتى تتمكن من مواجهة أي تحركات ضدها.
ليس خافيا أيضا أن مناخا دوليا داعما للديمقراطية بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ ساعد بطريق غير مباشر التحركات الشعبية العربية نحو الديمقراطية، لكن المناخ الدولي الآن عاد إلى دعم الأنظمة المستبدة،
لقد كان يأمل أن تأتي الديمقراطية التي يساندها ببعض القوى التي يعتقد بقربها منه فإذ بها تأتي بمناوئيه، ومناوئي مشروعه الصهيوني في المنطقة، فما عاد يشغل نفسه بقضية دعم الديمقراطية أو حقوق الإنسان، ولتضف هذه النقيصة إلى سجله الأسود في ازدواجية المعايير
لاخيار إلا المحاولة
محنة الديمقراطية العربية ثلاثية الأبعاد، خذلان بعض الديمقراطيين العرب لها، واشتداد قبضة الاستبداد ضد المتمسكين بها، وتراجع الغرب عن دعمها، فما هو العمل؟ وهل نستسلم لهكذا وضع بائس؟
وكيف يمكن إعادة توطين الديمقراطية وترسيخها في منطقتنا؟
بعض الإجابات وردت في أعمال المؤتمر الثاني لشبكة الديمقراطيين العرب التي انعقدت في ذكرى طوفان الأقصى 7-8أكتوبرتشرين أول ٢٠٢٤) في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك بعد أن تعذر عقدها في عاصمة عربية وهذا وجه آخر للمحنة.
ربما كان السؤال المحرج في المؤتمر حول سيريالية المشهد في الحديث عن الديمقراطية بينما غزة تحترق!! وكان الرد على لسان الرئيس التونسي الأسبق ورئيس المؤتمر الدكتور منصف المرزوقي،
أننا لن نجلس واضعين أكفنا على خدودنا، مكتفين باستدرار دموعنا ألما على ما يحدث، وليس أمامنا من خيار إلا المحاولة ثم المحاولة، فغياب الديمقراطية هو سبب كوارثنا واستعادتها ستساعدنا في رد حقوقنا،
وتحصينها، مضيفا أن غياب الديمقراطية هو الذي أوصلنا لما نحن فيه، وأنه لو كان الرئيس الشهيد محمد مرسي المنتخب ديمقراطيا قائما بيننا لما حدثت هذه المجازر.
إعلان سراييفو!!
كان المؤتمر مصمما بالأساس لإقرار العهد الديمقراطي العربي، أو ما سمي بإعلان سراييفو، وقد تضمن هذا العهد إلى جانب البيان الختامي خارطة طريقة إذا تمسك بها دعاة الديمقراطية وبذلوا الجهد الكافي والتضحيات لتنفيذها.
ضمن خارطة الطريق المقترحة لشبكة الديمقراطيين العرب مواصلة السعي لإنهاء الحكم الاستبدادي، وبناء دولة القانون والمؤسسات، القائمة على مبدأ المواطنة، والتعددية بكل أشكالها، والانتقال من شعوب الرعايا إلى شعوب المواطنين سادة قراراتهم وثرواتهم،حتى تتمكن من تحقيق الوحدة العربية وتحرير ما تبقى من الأرض المحتلة.
تضمنت الخارطة أيضا وبعد تدشين شبكة الديمقراطيين العرب رسميا ضرورة بناء المساحات المشتركة بين النخب العربية ، وجمع كلمة القوى السياسية العربية على مبادئ الديمقراطية مع الاعتراف بحق الاختلاف في البرامج السياسية، وفي الانتماءات الأيديولوجية، وفي الوصول إلى سدة الحكم عبر انتخابات حرة، والعزم على العمل الجماعي المشترك بكل الوسائل السلمية المتاحة، اعتمادا على المشتركات ونبذ الخلافات بهدف تحقيق الديمقراطية ودحر حلف الاستبداد والفساد والعمالة في المنطقة.
دفعت الشعوب التي عاشت دهرا تحت حكم الاستبداد والطغيان أثمانا بالغة لإنهاء تلك الحقبة، وانتزاع حقوقها في الحرية والاستقلال والكرامة والتنمية المستدامة، ولن تنعم منطقتنا بهذه الحقوق إلا بعد دفع الضريبة اللازمة لذلك، وقد دفع بعضها جزءا من الضريبة، ولا يزال يدفع ما تبقى، ولن تيأس شعوبنا وقواها الحية حتى تنال حريتها وكرامتها، وتصل إلى ديمقراطية حقيقية، تختار بموجبها حكامها، وتحاسبهم، وتعزلهم عند الضرورة، وإذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.. ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر.