مثلما كانت مصر الناصرية، هي محور الأحداث في الشرق الأوسط، كذلك فإن إيران الخمينية حلت مكانها؛ لتكون محور الأحداث في الشرق الأوسط، وبقدر ما كان عبد الناصر في مواجهة الاستعمار هو الطبعة المصرية من مصدق الفارسي الذي واجه الاستعمار، وأعلن تأميم صناعة النفط الإيراني،
فكذلك كان الخميني هو عبد الناصر الفارسي الذي تطلع لقيادة الشرق الأوسط في مواجهة الصهيونية والاستعمار، تماما مثلما كان الشاه محمد رضا بهلوي هو السادات الإيراني، ومثلما كان السادات هو الشاه المصري، تصرف عبد الناصر- في مواجهة القوى الكبرى- باعتباره الوريث التاريخي لإمبراطورية محمد علي باشا،
ومن قبلها إمبراطورية صلاح الدين، ومن أعقبها من عظماء المماليك، لم يكن أمام القوى الكبرى من خيار غير القضاء على زعامة عبد الناصر، حتى يخلو لهم النفوذ في الشرق الأوسط، حاولوا في 1956م،
وأخفقوا، ثم حاولوا في 1976م، و ظفروا بالنجاح، انكسرت زعامة عبد الناصر، وبات الطريق ميسراً لقيادة مصر، ثم العرب، ثم الإقليم في طريق معاكس ومضاد تماماً، طريق التوافق، ثم التطبيع، ثم الخضوع الطوعي للإملاءات العامة للقوى الكبرى.
تم إجهاض الناصرية على مراحل:1- الدعم الغربي للدول العربية المحافظة، والتي بدورها دخلت مع ناصر في حروب باردة مخفية؛ فأجهضت مشاريعه للوحدة العربية، ثم استنزفت قدراته العسكرية في حرب اليمن. 2- سياسة الضربة الشاملة القاضية في 1767 م. 3- تصفية المشروع الناصري من داخله- بنجاح منقطع النظير- من خلال الرجل الثاني الذي حل مكان عبد الناصر في قيادة الدولة،
وتمكن في عشر سنوات من تحويل الدفة من النقيض إلى النقيض، ومثل بذلك نموذجاً فعالاً لتصفية المشاريع المضادة للغرب؛ فجاء بعده جورباتشوف الذي نجح في تفكيك الاتحاد السوفيتي، ثم جاء محمود عباس أبو مازن الذي نجح في تصفية الثورة الفلسطينية من داخلها. وبهذا خرجت مصر من أن تكون محور السياسة في الشرق الأوسط،
صارت بلداً عادياً، قدم تنازلات ضخمة من دوره ووضعه ومكانته، دون مقابل إلا معونات تتناقص مع الأيام، وإلا مشاكل داخلية تتفاقم، وتراجعاً في التأثير الإقليمي لا يتوقف.
في حالة الخميني ونظام الثورة الإسلامية في إيران؛ فإن الأمر يلزمه إيضاح عدة نقاط:
1- بعد خروج مصر من سُدة القيادة الإقليمية بعد عبد الناصر، صارت في الإقليم قوتان أخطر من بعضهما: إيران سواء قبل الثورة أو بعدها وسواء تحت قيادة الشاه أم الخميني، ثم عراق صدام حسين والبعث العربي الاشتراكي، وقد حرصت أمريكا على إقامة توازن دقيق بينهما، بحيث تشغل كل منهما بالأخرى، وحيث لا تسمح لواحدة منهما بهزيمة الأخرى،
ورغم أن أمريكا كانت حليفة الشاه، وكان الشاه رجلها التابع المخلص الأمين، ورغم أنها ضمنت له مثلما ضمنت لإسرائيل ماكينة عسكرية متقدمة ومتفوقة، رغم ذلك كله، فإن أمريكا- لحفظ التوازن بينه وبين العراق، لم تتردد في إذكاء الخلافات بين البلدين، بما يستنزف قدراً من طاقة حليفها القوي، ويجعله في حالة احتياج دائم إليها، كان هذا قبل الثورة، وقبل سقوط الشاه، وقبل تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية في إيران.
2 – رغم أن عراق صدام حسين كان حليفاً لموسكو، أي ضد أمريكا، ورغم أن إيران الخميني كانت ضد الأمريكان بصورة عنيفة، وضد الروس بصورة أقل، رغم هذا وذاك، فإنها شجعت الحرب بينهما، ثم وزعت تأييدها ودعمها- في الخفاء- بالتساوي بينهما، بحيث لا ينتصر أحدهما على خصمه، وبحيث يطول أمد الحرب أطول فترة ممكنة، وبحيث يتم استنزافهما معاً بالقدر الذي يقلل من خطرهما لفترة طويلة.
3 – المقصود بالتوازن هنا، هو إشغال هذين البلدين الكبيرين كل منهما بالآخر، بحيث لا يجد أي منهما وقتاً ولا قوة؛ ليفكر في السيطرة على منابع البترول والغاز في الجزيرة العربية،
فمنذ شقت أمريكا طريقها إلى البترول العربي وعندها استراتيجية ثابتة، وهي أنه: من مصلحة أمريكا بقاء منابع بترول الجزيرة العربية في يد العائلات العربية الحاكمة وهي آل سعود، وآل نهيان، وآل الصباح، وآل ثان، وآل خليفة،
وأن كلاً من إيران والعراق لدى كل منهما المقدار من القوة الذي يغري، ويكفي للاستيلاء على بعض أو كل البترول العربي، وأن مصلحة أمريكا تقتضي إبعاد هذين الخطرين، كما تستلزم حماية حكم العائلات الخمس، وضمان استمرارها وكفالة استقرارها.
4 – فائدة التوازن بين قوتي إيران والعراق، وتوزيع الدعم بينهما، وخلق النزاعات بينهما، وإطالة أمد الحرب بينهما، واستنزاف طاقة كل منهما، كانت فائدة ذلك كله أمران: أن تضمن أمريكا بقاء البترول العربي في يد العائلات العربية الحاكمة، دون أن تضطر لدخول حرب مباشرة مع أي طرف منهما، ثم الأهم هو ألا تضطر أمريكا للحل المر المذاق،
وهو أن تضطر بنفسها لاحتلال الجزيرة العربية احتلالا مباشراً بالقوة المسلحة، وقد حدث شيء من ذلك بصورة جزئية عدة مرات، مرة اضطرت لحرب العراق بعد غزوه الكويت، فلو لم تحاربه؛ لكان الطريق أمامه مفتوحاً للسيطرة، على ما يشاء من بترول الجزيرة العربية.
5 – بقى هذا التوازن قائماً، حتى مطلع الألفية الراهنة في 11 سبتمبر 2001م، وأخطأت أمريكا جملة أخطاء، صبت كلها في صالح الجمهورية الإسلامية في إيران، وكانت خلاصة الأخطاء الأمريكية، هي تقديم الشرق الأوسط هدية على طبق من فضة إلى إيران. قبل ذلك عاشت إيران من الثورة 1979، حتى غزو أفغانستان 2001م،
ثم العراق 2003، عاشت في محيط من الخصوم التقليديين، حيث أهل السنة في أفغانستان وباكستان، وحيث العراق العلماني البعثي تحت قيادة العرب السنة، وحيث عرب الخليج، وحيث مصر، وإن كانت قد انسحبت طواعية من قيادة العرب، إلا أنها ظلت وفية لانتمائها العربي، تبرعت أمريكا، وتطوعت وأزاحت كل هذه الحواجز من طريق التسلل، ثم التوسع، ثم مد نفوذ وهيمنة إيران على الإقليم.
6 – إذا كانت أمريكا بعد 11 سبتمبر 2001م قد تحولت من جمهورية إلى إمبراطورية غير محكومة بدستورها الداخلي الذي يعبر عن جمهورية، وليس إمبراطورية، كما هي غير محكومة بالقانون الدولي،
فكذلك تحولت إيران إلى إمبراطورية إقليمية، تمددت في ربع القرن الأول من القرن الحادي والعشرين، بما يجدد صلتها بتراثها الإمبراطوري من الأخمينيين في القرن السادس قبل الميلاد، حتى الصفويين في القرن السادس عشر الميلادي، كانت نقطة البداية: إسقاط السنة في أفغانستان 2001، ثم إسقاط البعث العربي العلماني في العراق 2003.
7 – مثلما سعت أمريكا لاستنزاف إيران، وإطالة أمد حربها مع العراق، فكذلك رحبت إيران بغزو أمريكا لأفغانستان، ثم العراق، وساعدت على تورطها بمعلومات استخباراتية مضللة حتى تم الغزو،
ثم بعد الغزو، بدأت تدعم المقاومة سواء من الشيعة أو السنة وسواء من خصومها أو من توابعها، ثم ساعدت على إطالة أمد حربها سواء في أفغانستان أو العراق، ثم في إفشال نماذج الحكم التي اصطنعها الأمريكان في البلدين، وفي الخلاصة: ساعدت إيران- بكفاءة عالية- على فشل الأمريكان سواء في أفغانستان أو العراق.
8 – بقدر هزيمة أمريكا الإمبراطورية الجامحة في العراق وأفغانستان، كان صعود إيران إلى مركز إمبراطوري صاعد في الشرق الأوسط، حدث ذلك في العقد الأول من القرن،
ثم بدأ العقد الثاني بثورات الربيع العربي التي وقفت منها أمريكا- في البداية- موقف الدعم والتأييد، كان الحاصل هو انكشاف العالم العربي بكامله أمام النفوذ الإيراني الذي تمدد، كلما ضعفت الدولة الوطنية، لذا فهو يبلغ ذروته في العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث ضعفت الدولة ومؤسساتها،
وفقدت الكثير من مناعتها الذاتية وتماسكها الداخلي وحصانتها الوطنية، وقد اضطرت عائلات النفط العربي إلى مزيج من القهر والرشوة الاجتماعية، حتى تمنع الأقليات الشيعية من التجاوب مع تسلل النفوذ الإيراني، كما سعت هذه العائلات، بموافقة أمريكية، إلى نوع من الثورات المضادة في كافة أنحاء العالم العربي؛ لإجهاض ثورات الربيع العربي، وتجريسها ونزع كل غطاء أخلاقي عنها.
9 – طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023، وما أعقبه من حرب طويلة، تمددت من غزة إلى جنوب لبنان وإلى اليمن وإلى العراق وإلى سوريا، هي- في تعريفها الصحيح- حرب مزدوجة وذات مسارين: 1- حرب بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. 2- كما هي حرب غير مباشرة أو حرب عبر الوسطاء والوكلاء بين الإمبراطورية العالمية والإمبراطورية الإقليمية،
لهذا طالت الحرب، لأنها ليست إلا محطة حاسمة من حرب نفوذ طويلة، بدأت مباشرة عقب 11 سبتمبر 2001م، حرب ربع قرن، خسرت فيها أمريكا، ولا تزال تخسر، وكسبت فيها إيران، ولا تزال تكسب.
10 – أمريكا بعد 11 سبتمبر 2001، تحولت إلى إمبراطورية دون قصد منها، لكن أخطاءها الاستراتيجية الفادحة؛ فتحت أوسع طريق أمام إيران؛ لتكون إمبراطورية إقليمية، دون قصد منها،
كما دون قصد من أمريكا، لكن واقع الحال، كما أن أمريكا ربع اقتصاد العالم وسلاحها، يحيط بالكون في كل المحيطات، كما في أجواز الفضاء، فكذلك إيران لها جذور إمبراطورية ضاربة في عمق الإقليم،
جذور كانت من العمق بحيث تحتاج مثل الإسكندر لاقتلاع الإمبراطورية الأخمينية أو الكيانية 331 قبل الميلاد، أو مثل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاقتلاع الإمبراطورية الساسانية 641م.
في الظاهر، فإن الحرب هي بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
وفي الباطن، هي حرب بين إمبراطورية عالمية وإمبراطورية إقليمية.
طالت الحرب، وسوف تطول؛ لأنها حرب بين قوى وسيطة بما فيها إسرائيل.
حسم الحرب يستدعي أن تكون مباشرة بين الطرفين المعنيين بالدرجة الأولى: أمريكا وإيران.
وهذا لن يحدث، ما دام، أمريكا عندها أدوات لتجريد إيران من نفوذها الإقليمي، دون حرب مباشرة بينهما.