الحكومة المصرية الجديدة وعدت بتطوير المنظومة الصحية، تحسين أوضاع المرضى وتقديم الرعاية داخل المستشفيات الحكومية، وصرّحت في بداية عملها بأن النظام الصحي سيكون على رأس أولوياتها.
لكن هذه الوعود كانت مجرد تصريحات بلا أثر، حيث بدأت زيارات المسؤولين للمستشفيات، يتخللها تصريحات مثيرة وخصومات للبعض، لتحقق بعدها تحسينات مؤقتة وسطحية، لكن الأوضاع كانت تعود سريعًا إلى ما كانت عليه.
هذا هو ما حدث بالفعل أثناء جولات رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب ووزير الصحة الدكتور عادل عدوي في عدد من المستشفيات، والنتيجة كانت مخيبة للآمال.
أرقام وإحصائيات رسمية تكشف عن انهيار مخيف للمنظومة الصحية في مصر، وتضع الدولة في مراتب متدنية جدًا عالميًا من حيث الإنفاق على الصحة.
حيث لا يتعدى نصيب مصر في موازنة السنوات المتتالية منذ 2011 وحتى 2014 نسبة 4.9% فقط من إجمالي الإنفاق العام، بينما المعدلات الدولية التي أقرّتها الأمم المتحدة في قمة الألفية بلغت 15%، وهو ما وافقت عليه مصر في قمة أبوجا عام 2001.
النسب المقارنة تؤكد حجم الكارثة؛ أفغانستان تنفق 6.7%، العراق 8.4%، وحتى دول مثل بوروندي تصل إلى 11.7%. هذه الفجوة في الإنفاق تترجم مباشرة إلى نقص رهيب في الأدوية والخدمات، وتجعل المستشفيات الحكومية ساحة للموت البطيء.
مستشفى إمبابة العام: انتظار الموت هو الخيار الوحيد
عندما خطت أقدامنا إلى مستشفى إمبابة العام، كان المشهد قاتمًا لدرجة يصعب معها التصديق أن هذا المكان مخصص لعلاج المرضى.
لا أطباء ولا ممرضين ولا نظام، فقط انتظار الموت في مكان مهمل لا يصلح حتى للحيوانات. أول ما يستقبلك في المستشفى هو شخص خمسيني يتبادل الأحاديث والضحكات العالية مع امرأة أربعينية، دون أدنى اكتراث بما يحدث حوله، همّه الوحيد كان تحصيل ثمن التذكرة.
بمجرد تجاوز البوابة، وجدت أن ممرات المستشفى شبه مهجورة، مظلمة ومليئة بالقطط التي تلعب بحرية كاملة، بينما الأهالي يتجولون كالأشباح، وجوههم تعبر عن معاناة ممتدة مع تجاهل تام لحاجاتهم الصحية.
غرفة العناية المركزة، التي كان يجب أن تكون آخر ملاذ للمرضى المحتاجين للرعاية، كانت مفتوحة على مصراعيها، تضم أربعة أسرة متهالكة، وجهاز تنفس واحد فقط، بينما كانت الممرضة الوحيدة في القسم غارقة في نوم عميق، لا مبالية بما يحدث حولها.
أحد المرضى العجائز توفي ببساطة لأنه لم يكن هناك أدوية متاحة لإنقاذه. الممرضة قالت لنا ببرود “الغلابة في البلد ديه ملهمش مكان يتعالجوا فيه”. هذه الجملة تختصر مأساة الملايين من المصريين الذين لا يجدون أدنى فرصة للعلاج داخل منظومة صحية فاسدة، عاجزة ومهملة.
معهد القلب في إمبابة: مكان للموت بدلاً من العلاج
الآلاف يتدفقون يوميًا على معهد القلب بإمبابة، أملاً في علاج القلوب المريضة، لكن ما يجدونه هناك هو العكس تمامًا. معهد القلب الذي من المفترض أنه مخصص لعلاج المرضى تحوّل إلى ساحة للفوضى والإهمال.
المرضى ممنوعون من الدخول عبر البوابات الأمامية، وكأنهم عار على المكان الذي تحيطه نوافير وحدائق وهمية. يُجبر المرضى على الدخول عبر بوابات خلفية تتراكم حولها الغرز العشوائية، والبائعون يفترشون الطرقات لبيع السلع التافهة، بينما المرضى ينتظرون لساعات طويلة في طوابير تمتد بلا نهاية، وغالبًا ينتهي اليوم دون أن يحصلوا على أي علاج.
داخل المعهد، لا يحق لك حتى الاعتراض على المعاملة المهينة. الحراس الضخام يسيطرون على المكان، يتعاملون مع المرضى وأهاليهم بغلظة مفرطة.
أحيانًا يُشهرون أسلحة بيضاء، ولا يخشون استخدامها. داخل العناية المركزة، تُرك المرضى يواجهون الموت وحدهم، بينما الفريق الطبي يغرق في الفوضى.
مريض يروي حكايته المريرة عن دخوله المعهد بعد أن أصيب بذبحة صدرية، وفشل الأطباء في توفير الدعامات اللازمة لعلاجه. المستشفى قدّم له دعامة واحدة، لكنه اضطر لشراء الثانية من السوق السوداء بأسعار مرتفعة.
العناية المركزة في هذا المكان تفتقر لأبسط الاحتياجات الطبية. أغلب المرضى مثل هذا المريض البائس، مجبرون على البحث عن الأدوية الأساسية في الخارج بسبب العجز التام في المستشفى.
مستشفى المنيرة العام: “أمى بتموت.. يا ظلمة”
دخلنا مستشفى المنيرة العام وسط صرخات آهات المرضى. ممرات ضيقة مظلمة تكتظ بالمرضى المكدسين على الأرض في انتظار دورهم، لكن الانتظار في هذا المكان قاتل.
الأطباء غائبون، والممرضات يرفضن التعامل مع الحالات الطارئة إلا بدفع “البقشيش”. فتاة في العشرينيات صرخت بأعلى صوتها “أمى بتموت.. يا ظلمة”، لكنها لم تجد أي استجابة من الطاقم الطبي، الذين تركوها وحيدة مع والدتها التي كانت تنزف.
المشهد في صيدلية المستشفى أكثر كارثية. الأدوية الأساسية مفقودة، والمرضى مجبرون على شراء الأدوية من الخارج بأسعار خيالية، أو يموتون ببساطة لأنهم لا يستطيعون تحمل التكلفة. رجل مسن بملابس رثة يتوسل للعاملين في المستشفى ليتمكن من إجراء غسيل الكلى، لكنه قوبل بنهر شديد من الأمن.
مستشفى الصف: “اللى ييجى هنا سليم بيموت”
أما في مستشفى الصف، فالأمر يتجاوز كل الحدود. المستشفى يبدو وكأنه منزل مهجور، الجدران متهالكة، والغرف مليئة بالقاذورات.
العاملون هناك يصفون المكان بأنه “خرابة”، ويقولون إن من يأتِ للعلاج يموت حتمًا. القمامة منتشرة في كل مكان، وأجهزة التنفس متهالكة أو غير موجودة من الأساس. في قسم العناية المركزة، تجد أسرة بلا أغطية، أو في حالة مزرية، والمعدات الطبية بالكاد تعمل.
شاب في غيبوبة كبدية يُترك ليموت ببطء دون أي رعاية، والأطباء غير موجودين. عندما سألت إحدى الممرضات عن حال المستشفى، ردت قائلة: “إحنا هنا معندناش إمكانيات لأي حاجة”.
الكارثة في كل مكان ولا أمل في الإصلاح
الأوضاع الصحية في مصر ليست مجرد مشكلة، بل كارثة وطنية. المستشفيات الحكومية لا تقدم الحد الأدنى من الرعاية الصحية، ويعيش المرضى بين الإهمال والموت البطيء.
الحكومة المصرية فشلت بشكل ذريع في توفير أي تحسينات ملموسة على أرض الواقع، ورغم الوعود المتكررة، فإن الوضع يزداد سوءًا يوما بعد يوم.
المسؤولون يغرقون في تصريحات براقة وزيارات شكلية، بينما يظل المواطن المصري البسيط ضحية لنظام صحي فاسد.