يمكن اعتبار المانيا ” القوة المركزية في الاتحاد الاوروبي ، فهي تحتل المرتبة الخامسة عالميا في اجمالي الناتج المحلي (المعادل الشرائي ppp) ،
والاولى في اوروبا( تنتج محليا ما يعادل 29.9% من اجمالي الناتج المحلي الاوروبي)، كما انها الاكبر في عدد السكان بين دول الاتحاد (حوالي 85 مليون نسمة)،
وتقف على راس الدول الاوروبية في عدد اعضاء البرلمان الاوروبي المؤثر في السياسة الاوروبية ( 96 عضو من 720 اي بنسبة 13.3%).
ذلك يعني ان الموقف الالماني من معركة طوفان الاقصى يشكل متغيرا هاما في المشهد الدولي ، وقد اتسم هذا الموقف بانحياز كبير الى جانب اسرائيل الى الحد الذي جعل 9% فقط من المجتمع العربي يستمر في نظرته الايجابية لالمانيا طبقا لاستطلاعات الرأي العربي ، وابرز ابعاد هذا الانحياز تمثل في المواقف التالية:
1- الادانة المستمرة للمقاومة الفلسطينية والاصرار على اعتبارها ” حركة ارهابية”.
2- اعتبار كافة العمليات الاسرائيلية دفاعا مشروعا عن النفس الى حد قول المستشار الالماني اولاف شولتز” ليس لنا مكان إلا بجانب اسرائيل” .
3- استمرار تزويد اسرائيل بالسلاح، وتقف المانيا في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في نسبة مبيعات السلاح لاسرائيل بواقع 47% من مشتريات السلاح طبقا لتقرير معهد سيبري(SIPRI ) المتخصص في هذا المجال. ورغم ان العديد من الدول المعروفة بعلاقاتها مع اسرائيل تجد حرجا في بيع السلاح لاسرائيل بعد الطوفان، إلا ان المستشار الالماني شولتز تجاوز كل هذا الحرج.
4- نقد المانيا لقرارات الهيئات القضائية الدولية( العدل الدولية و الجنائية الدولية) مما دفع نيكاراغوا الى الدعوى ضد المانيا امام العدل الدولية بانها” تساعد اسرائيل في سياسة الإبادة في غزة ” بتسليحها والدفاع عن سياساتها.
5- التضييق على نشاطات مؤازرة المقاومة الفلسطينية او حتى المطالبة بادانة اسرائيل ، وظهر ذلك في الجامعات والمظاهرات الشعبية والندوات بل ومعاقبة مفكرين المان لم يساندوا الدولة في مواقفها ضد الفلسطينيين.
6- تفعيل قانون معاداة السامية او الحض على الكراهية (بخاصة ضد اسرائيل) والذي ينص على السجن خمس سنوات .
7- ان تفسير المانيا لحل الدولتين الذي تتبناه لا يتجاوز المفهوم الذي يتبناه اليسار الصهيوني.
والملفت للنظر ان السياسة الحكومية الالمانية بخاصة مواقف مستشارها شولتز المعلنة والتي تتسم “بالتعالي واللامبالاة” لا تتسق وتوجهات الشعب الالماني من السلوك الاسرائيلي في غزة بشكل محدد بعد الغزو الاسرائيلي لغزة بعد الطوفان ، فقد اشار استطلاع لمعهد الماني( Forsa Research Institute ) في نهاية شهر مايو 2024 الى النتائج التالية:
- عارض 61% من الالمان الهجوم الاسرائيلي على غزة بينما ايده 33%
- 57% يطالبون الحكومة الالمانية بادانة السلوك الاسرائيلي .
- 69% يعتبرون الهجوم الاسرائيلي على غزة عملا “غير شرعي”
- 87% يطالبون بمزيد من الضغط الغربي على اسرائيل.
- 48 % من الالمان يتشككون في حيادية تقارير الاعلام الغربي في تغطية ما يجري في غزة( استطلاع الماني آخر).
كل ما سبق ،يفرض سؤالا محددا ، لماذا هذا الموقف الالماني الذي يشذ عن الاتجاه العام الاوروبي الاقل رعونة حتى في التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ؟، ويمكن القول بأن اسباب الموقف الالماني تتمحور حول بعدين هما : بعد تاريخي وبعد راهن على النحو التالي:
أولا البعد التاريخي:
شكلت قضية “الهولوكوست” والجرائم النازية مجالا لتبرير المساعدات المستمرة من المانيا لاسرائيل، واصبح الحرج من نقد السياسات الاسرائيلية تقليدا سائدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما ان توثيق العلاقة التاريخية بين الطرفين (الاسرائيلي والالماني) تعزز كرد فعل على التوجهات الناصرية في الستينات من القرن الماضي ،ناهيك عن تطوير نسيج العلاقات من خلال العلاقة البنيوية التي نسجها شيمون بيريز و وزير الدفاع الالماني شترواس في حقبة الستينات، ولتعزيز تجديد هذا النهج اتخذت الحكومة الالمانية منهجين في هذا الاتجاه:
أ- استمرار دفع التعويضات المالية لمن اعتبروا ضحايا النازية منذ 1945، وما تزال المانيا تدفع حتى هذه اللحظة هذه التعويضات ليهود في اسرائيل بشكل خاص، وبلغت قيمة الدفع حتى الآن حوالي 87 مليار دولار، كان أخرها دفعة في عام 2023 بقيمة حوالي 1.5 مليار يورو.
في ظل هذا الوضع ،تواصل المانيا التشبث بموقفها من اسرائيل لكي لا تثار ضدها المزاعم التاريخية، ولكن لماذا لا تدفع المانيا تعويضات-على سبيل المثال- ل 27 مليون فرد سوفييتي منهم 19 مليون مدني قتلهم جيش هتلر؟، ولماذا تقتصر التعويضات على اليهود فقط ؟.
ب- تفعيل حكومة شولتز منذ 2021 قانون تجريم معاداة السامية بل توسعت في حيثياته، وهو ما شكل الغطاء القانوني لقمع كل تاييد لفلسطين.
ثانيا: البعد الراهن:
يمكن تلمس “العناد الألماني” في استمرار التاييد المطلق لاسرائيل في الوقت الحالي وبعد الطوفان بما يلي:
1- دور اللوبي اليهودي: رغم ان عدد اليهود في المانيا لا يتجاوز 150 – 200 الف اغلبهم ممن هاجروا لالمانيا من الاتحاد السوفييتي بعد انهياره ويتركزون في برلين بشكل يفوق 65% ، إلا ان عددا من هيئات المجتمع المدني التي تعمل لصالح اسرائيل تؤثر بشكل كبير في توجهات شخصيات الحكومة الالمانية، ولعل هيئتان هما الابرز : مجموعة المبادرة القيمية(Values Initiative) و ما يسمى منتدى سلام الشرق الاوسط(او ما يسمى مجموعة Naffo). وقد شن المجلس المركزي اليهودي في المانيا في فترة سابقة عام 2019هجوما حادا على المجلة الالمانية المعروفة” ديرشبيغل” بعد ان كشفت في تقريرها عن “رشى تم تقديمها من اللوبي اليهودي لاعضاء في البرلمان الألماني لتعطيل صدور قرار لفرض مقاطعة على اسرائيل”، وأدت هذه الرشى طبقا للصحيفة الى قرار معاكس يفرض قيودا على مجموعة بي دي اس(Boycott.Divestment and Sanctions) المعروفة باعتبارها معادية للسامية لانها تساند الحقوق الفلسطينية، وردت الصحيفة المعروفة بتاكيد اتهاماتها للوبي اليهودي. واتضح نفوذ هذا اللوبي في ردة الفعل على تصريحات احد ابرز الخبراء الالمان في السياسة الامريكية وهو جوزيف برامل(Josef Braml) لانه اتهم اللوبي اليهودي بانه متغير فاعل في السياسات الغربية وبخاصة الامريكية.
2- وزن التيار المسيحي الانجليكاني في هيئات صنع القرار الألماني: من الضروري إدراك ان المسافة السياسية بين اليهودية والبروتستنتينية اقصر من المسافة مع الكاثوليكية، وحيث ان حوالي 50% من المجتمع الالماني ينتمي للبروتستنتينية ، فإن الجناح الانجليكاني فيها والذي يعتبر ان ” تجميع اليهود في ارض الميعاد هو بشارة عودة المسيح”، وان الانجيل هو الاستكمال للعهد القديم(التوراة)، وهو ما تجسد في تيار المسيحية الصهيونية ، فان من الطبيعي ان تسود النظرة السلبية الحادة تجاه المسلمين والعرب بخاصة ان الاتفاق الحكومي مع احزاب الخضر والمسيحي الديمقراطي قام على اساس التاييد لاسرائيل كأحد منطلقات الحكومة الالمانية الحالية ، وهو ما يفسر ان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم لم يحصل في المناطق التي يعيش فيها من يحمل الجنسية الالمانية من المسلمين الا على نسب تاييد متدنية بشكل واضح.
3- تلعب النقابات الالمانية دورا وازنا في صياغة توجهات الاحزاب والسياسة الالمانية، ويكاد الحزب الاشتراكي من اكثر الاحزاب الالمانية اعتمادا على دور النقابات في دعمه الانتخابي،ويتركز عتاة النقابيين في المجمعات الصناعية بخاصة الصناعات العسكرية، ولما كانت المانيا –كما اشرنا- هي المورد الثاني بعد الولايات ا لمتحدة للسلاح لاسرائيل،فان الارباح التي تجنيها هذه النقابات من مبيعات السلاح يجعلها اقرب للموقف الاسرائيلي وتجر معها الحزب الاشتراكي الحاكم الذي يعتمد عليها ، ويكفي ملاحظة ان مبيعات السلاح الالمانية لاسرائيل تضاعفت حوالي عشرة اضعاف خلال العامين السابقين .
4- يغلب على الاحزاب الاشتراكية الاوروبية بشكل عام الموقف المنحاز لصالح اسرائيل، ومنذ ان نسج “اليسار الصهيوني” عبر مؤسسات الاشتراكية الدولية العلاقة مع هذه الاحزاب(وكان لبيريز دور هام للغاية في هذا الجانب) تدعمت العلاقات بين القوى الاشتراكية الاوروبية واسرائيل( فعلى سبيل المثال وقع العدوان الثلاثي على مصر في زمن الاشتراكيين في فرنسا، وحصلت اسرائيل على برنامجها النووي في زمن الاشتراكيين في العالم التالي للعدوان…الخ) ولعل ركوع فيلي براندت عام 1970 امام نصب ضحايا النازية وموقفه المعادي لتحرر فيتنام مؤشرات على توجهات هذا الحزب، وكانت نهاية تقارب هذا الحزب مع الولايات المتحدة هي السماح بنشر الصواريخ الامريكية في المانيا اعتبارا من عام 2026.
5- تحتل المانيا المرتبة الثالثة بين دول العالم في قائمة الشركاء التجاريين لاسرائيل، وقد بلغ حجم التجارة بينهما حوالي9.1 مليار دولار وهو ما يعادل 7,57% من تجارة اسرائيل.
6- غياب اي دور دبلوماسي للعرب في التأثير على السياسة الألمانية، فرغم ان حجم التجارة العربية الالمانية يصل الى 67.5 مليار دولار( قرابة سبعة اضعاف التجارة مع اسرائيل) وأن هناك اكثر من 110 مليار دولار من الاستثمارات العربية في المانيا، الا ان التجارة العربية الالمانية في معظمها هي مع دول عربية تعادي محور المقاومة ، مما يشجع المانيا على الذهاب بعيدا في تاييد اسرائيل دون اية هواجس سياسية من ردة فعل عربية.
الخلاصة: ان الانحياز الالماني لاسرائيل ليس “صدفة” بل هو نتيجة لبنية اجتماعية وسياسية واقتصادية ورؤيا براغماتية بحتة.