تقاريرحقوق وحريات

قنابل الغاز في النوبة: غضب متفجر وتهميش حكومي يفجر أزمة جبل تقوق

تصاعدت الأوضاع بشكل خطير في قرية جبل تقوق بأسوان بعد تدخل أمني عنيف من قوات الشرطة لتفريق احتجاجات أهالي القرية الذين ثاروا بسبب استبعاد أبنائهم من التوظيف في شركة مياه الشرب والصرف الصحي مما أثار غضبًا واسعًا واحتقانًا لم تشهده المنطقة منذ زمن طويل.

الأزمة بدأت عندما أعلنت شركة مياه الشرب مسابقة لتوظيف عشرات الفنيين في مجالات متعددة ورغم أن الكثير من شباب القرية تقدموا لشغل تلك الوظائف إلا أنهم فوجئوا باستبعادهم بشكل جماعي من قوائم المقبولين وهو ما أشعل غضب الأهالي الذين شعروا بأن الاستبعاد غير مبرر بل واتهموا الشركة بأنها لجأت للوساطة والمحسوبية في تعيين المقبولين وهو ما أثار الشكوك وزاد من شعورهم بالظلم.

تجمع الأهالي في خطوة احتجاجية على الطريق المؤدي للشركة مطالبين بإعادة النظر في نتائج المسابقة وفتح تحقيق شفاف حول التعيينات إلا أن الاستجابة جاءت بشكل مغاير تمامًا، حيث سارعت قوات الشرطة بمحاصرة القرية وطلبت من الأهالي التفرق لكنهم رفضوا الانصياع للأوامر ليواجهوا في غضون دقائق عشرات قنابل الغاز المسيل للدموع التي غطت سماء القرية وأدت إلى إصابة العديد من كبار السن والأطفال بحالات اختناق حادة.

واستمرت الشرطة في التعامل العنيف مع الأهالي مما زاد من الغضب والاحتقان داخل القرية، ولم تكتفِ بذلك بل قامت باعتقال 6 شباب من المحتجين وهو ما أثار ردود فعل غاضبة من جميع الأطراف داخل القرية، ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد تدخل بعض المسؤولين المحليين الذين حاولوا تهدئة الأوضاع والتفاوض مع زعماء العائلات لإقناع الأهالي بالعودة إلى منازلهم.

المشكلة الأكبر ليست فقط في طريقة التعامل الأمني مع أهالي القرية ولكن في السبب الجوهري الذي دفعهم للاحتجاج من الأساس، حيث تعاني مناطق النوبة منذ سنوات طويلة من التهميش التنموي والبطالة المتفشية بين الشباب خاصة بعد أن فقدوا أراضيهم الزراعية التي كانت مصدر رزقهم الوحيد، وذلك بعد بناء السدود التي تسببت في نزوح الآباء والأجداد إلى مناطق أخرى، تاركين خلفهم موروثًا حضاريًا وثقافيًا عريقًا.

مشاريع السدود ورغم أهميتها القومية لمصر كانت لها عواقب كارثية على سكان النوبة الذين وجدوا أنفسهم محرومين من حقوقهم الطبيعية في العمل والحياة الكريمة، ومع استمرار غياب المشاريع التنموية الحقيقية في هذه المناطق ازداد الوضع سوءًا وارتفعت نسب البطالة بشكل غير مسبوق ما جعلهم يعتمدون بشكل شبه كامل على الوظائف الحكومية كملاذ أخير للبقاء.

ورغم أن الدولة ملزمة دستوريًا بوضع خطط تنموية للمناطق الحدودية والمهمشة وعلى رأسها النوبة وفقًا للمادة 236 من الدستور إلا أن التنفيذ على الأرض يبدو شبه معدوم، ما دفع الأهالي إلى استماتة في الحصول على فرص توظيف قليلة مهما كانت الظروف.

المشهد الذي حدث في جبل تقوق ليس مجرد احتجاج عابر، بل هو نتيجة تفاعل لعوامل تاريخية واجتماعية وسياسية متراكمة، فالأهالي لا يطالبون بامتيازات غير مستحقة ولكن يطالبون بحقوقهم الطبيعية في أن تكون لهم الأولوية في التوظيف في شركة تقع داخل قريتهم وهذا ما فشلت الجهات المعنية في فهمه أو التعامل معه بحكمة.

لكن الأدهى من كل ذلك هو الطريقة الأمنية المتحفزة التي اعتمدتها السلطات في مواجهة الأزمة، فبدلًا من الحوار والاحتواء تم اللجوء إلى القوة المفرطة وهو ما يعكس عدم فهم طبيعة المنطقة وحساسيتها الاجتماعية والسياسية، حيث أن التدخلات الأمنية العنيفة تزيد الأمور تعقيدًا وتجعل الأوضاع مرشحة للانفجار في أي لحظة.

يجب التأكيد على أن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي للتعامل مع مشكلات النوبة المتراكمة بل تحتاج إلى سياسات تنموية حقيقية تأخذ في الاعتبار خصوصية تلك المنطقة التي عانت طويلًا من التهميش والإقصاء، وإذا استمر النهج الحالي في تجاهل هذه الاحتياجات ستظل الأوضاع قابلة للتصعيد وربما يمتد التوتر إلى مناطق أخرى في النوبة التي تواجه نفس المشكلات.

ما حدث في جبل تقوق هو تحذير خطير يجب على الحكومة أن تأخذه على محمل الجد وأن تدرك أن التعامل بالقوة والقمع لا يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان والغضب، الحلول الأمنية ليست هي العلاج دائمًا خاصة عندما يتعلق الأمر بمطالب اجتماعية واقتصادية مشروعة تحتاج إلى تفاعل إيجابي من الدولة.

ويجب أن نأمل في أن تكون الحكومة قد استوعبت الدرس، وأن تبدأ في اتخاذ خطوات جادة لتنمية المناطق النوبية وإشراك أهلها في عملية التنمية بدلًا من تركهم يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم، فالنوبة ليست فقط جزءًا من تاريخ مصر بل هي جزء لا يتجزأ من مستقبلها، وإذا لم نبدأ اليوم في معالجة مشاكلها فقد نجد أنفسنا في مواجهة أزمات أكثر تعقيدًا في المستقبل.

الخطوة الأولى يجب أن تكون بالاستماع لمطالب أهالي جبل تقوق وإعادة النظر في نتائج مسابقة التوظيف وتوفير فرص عمل حقيقية لأبنائهم، الحلول الأمنية لن تجدي نفعًا بل ستؤدي إلى تعميق الأزمات، والحكومة بحاجة إلى فتح قنوات حوار صادقة مع أهالي النوبة لضمان تحقيق العدالة والإنصاف للجميع.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى