في خطوة جريئة تحمل في طياتها تحديات هائلة ومخاوف متزايدة، كشف رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي عن نية الحكومة طرح أصول الدولة للاستثمار أمام القطاع الخاص، في خطوة لم تخلُ من الجدل والانتقادات اللاذعة.
هذه القرارات تأتي في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم الذي يدفع الحكومة إلى البحث عن وسائل لزيادة الإيرادات وتعزيز القدرة المالية،
إلا أن الكلفة المحتملة لهذه التحركات قد تكون عالية جداً، ليس فقط على مستوى الأصول الاستراتيجية، بل على مستقبل السيادة الاقتصادية للدولة المصرية.
مؤسسة التمويل الدولية، التي يُعتقد أنها تلعب دوراً أساسياً في صياغة برنامج الطروحات الجديد،
انتهت مؤخراً من إعداد دراسة فنية وجداول زمنية دقيقة لطرح 20 مطاراً مصرياً، بهدف إدارتها وتشغيلها من قبل القطاع الخاص.
هذه المطارات، التي تمثل جزءاً من البنية التحتية الحيوية في البلاد، لم تكن لتُطرح في سوق الاستثمار إلا بعد توصيات محددة من المؤسسة، التي أشارت إلى أن هناك إمكانيات هائلة لتعظيم الفائدة من هذه الأصول.
ولكن يبقى السؤال الذي يؤرق الكثيرين: هل ما تقدمه الحكومة اليوم هو خطوة نحو التقدم والتطور، أم أنها بداية لعهد جديد من التفريط في ثروات الدولة؟
إدارة وتشغيل المطارات المصرية أمام القطاع الخاص، وتحديداً الشركات الأجنبية، هو الموضوع الذي أثار قلق الكثيرين،
فبينما تبدو الحكومة واثقة من أن هذه الخطوة ستساهم في زيادة القدرة الاستيعابية للمطارات، وتحسين خدمات المسافرين، ثمة مخاوف كبيرة من أن تُفقد السيطرة على هذا القطاع الحيوي.
إذ تمتلك مصر 23 مطاراً، بما في ذلك مطار القاهرة الدولي، الذي يُعد الأكبر والأهم في البلاد، وهو ما يثير التساؤلات حول مدى تأثير هذه الخطوات على الأمن القومي والاقتصادي على المدى البعيد.
مدبولي لم يكتفِ بالإعلان عن هذه الطروحات، بل أشار أيضاً إلى أن الفترة القادمة ستشهد الكشف عن المزيد من الأخبار الهامة المتعلقة بطرح مطارات أخرى،
إضافة إلى بنوك حكومية. يأتي هذا في إطار برنامج الطروحات الذي يتم تنفيذه بالتعاون مع مؤسسة التمويل الدولية.
الحكومة المصرية تأمل من خلال هذا البرنامج أن تصل بحركة الركاب السنوية إلى 72.2 مليون راكب مع نهاية العام القادم، مقارنة بـ66.2 مليون راكب العام الماضي.
وهذا لا يعدو كونه هدفاً مرحلياً قبل أن تصل الحكومة إلى تحقيق الرقم الأكبر وهو 110 ملايين راكب سنوياً بحلول عام 2030.
ما يزيد من أهمية هذه الطروحات هو أن المطارات الأربعة الجديدة التي سيتم إدراجها ضمن البرنامج قد تم تطويرها على مدار السنوات التسع الماضية، مما يعني أن الدولة قد استثمرت بالفعل موارد ضخمة في تحسين بنيتها التحتية الجوية.
الآن، يتساءل المراقبون عما إذا كانت هذه الاستثمارات ستعود بالنفع على الشعب المصري أم أنها ستصب في مصلحة الشركات الأجنبية التي ستتولى إدارة هذه الأصول.
وزير الطيران المدني سامح الحفني كان من المؤيدين لهذه الخطوة، إذ أكد أن الوزارة حريصة على تبني أفضل الممارسات في صناعة الطيران المدني على مستوى العالم، مع التركيز على تحسين الأداء وتعظيم عوائد المطارات.
ولكن في ظل الحديث عن خصخصة إدارة المطارات، لم يتطرق الحفني إلى ما إذا كانت هذه الخطوات ستؤدي إلى فقدان الدولة السيطرة على أحد أهم قطاعاتها الاقتصادية والاستراتيجية.
إذا كانت الحكومة تعتقد أن الخصخصة هي الحل لتعزيز النمو الاقتصادي وتحسين الخدمات، فإن الكثير من المواطنين يرون في هذا التوجه تنازلاً خطيراً عن أصول الدولة التي تمثل جزءاً من سيادتها الاقتصادية.
المطارات، كما يعلم الجميع، ليست مجرد محطات للسفر والتنقل؛ فهي تمثل واجهة الدولة أمام العالم وتتحكم في جزء كبير من أمنها القومي، مما يجعل مسألة إدارتها من قبل شركات أجنبية أمراً يتطلب تدقيقاً شديداً وحسابات معقدة.
ما يزيد من تعقيد المشهد هو أن طرح المطارات والبنوك يأتي في وقت حساس للغاية تمر به البلاد، حيث يعاني الاقتصاد المصري من تحديات جسيمة نتيجة تراكم الديون الخارجية وارتفاع معدلات التضخم والبطالة.
فهل تكون هذه الطروحات طوق نجاة حقيقي، أم أنها خطوة نحو المزيد من التبعية الاقتصادية؟ وهل سيؤدي طرح هذه الأصول إلى تحسين الخدمات وزيادة الإيرادات فعلاً، أم أن العوائد الحقيقية ستذهب إلى المستثمرين الأجانب؟
الآراء حول هذا الموضوع متباينة بشدة. بعض الخبراء يرون أن فتح الباب أمام القطاع الخاص لتشغيل وإدارة المطارات قد يسهم في تحسين الكفاءة وزيادة الإيرادات، في حين يرى آخرون أن هذه الخطوة قد تفتح باباً للتلاعب بمصير الأصول الوطنية.
ورغم تطمينات الحكومة بأن هذه الطروحات ستجري وفق شروط دقيقة تضمن حقوق الدولة، إلا أن التجارب السابقة في مجالات أخرى لا تجعل هذه التطمينات مقبولة بسهولة.
إن القرارات التي تتخذها الحكومة اليوم ستحمل آثاراً طويلة المدى، ليس فقط على الاقتصاد بل على مستقبل البلاد بأكمله.
فتح المجال أمام القطاع الخاص لإدارة المطارات والبنوك وغيرها من الأصول الحيوية قد يؤدي إلى نتائج كارثية إذا لم يُحسن تطبيقه بعناية وحذر.
فهل يمكن حقاً ضمان أن السيادة الوطنية لن تتأثر، وأن هذه الطروحات لن تتحول إلى وسيلة لتفكيك أصول الدولة شيئاً فشيئاً؟
مصر اليوم تقف على مفترق طرق، حيث لا مجال للخطأ. القرارات التي يتم اتخاذها الآن ستحدد مصير أجيال قادمة.