عندما تتحول سيارة الإسعاف، رمز النجدة والحياة، إلى وسيلة لنقل الأثاث في أحد الأسواق الشعبية بالقاهرة عام 2018، يدرك المرء أن هناك انحداراً كارثياً يحدث أمام أعيننا،
فالمشهد المثير للصدمة ما هو إلا صورة صارخة لحقيقة أكثر قسوة عن حال منظومة الإسعاف المصرية قبل عام 2019، أي قبل أن تشهد خدمات الإسعاف زيادات مهولة في أسعارها،
زيادات امتدت حتى عام 2024، لتصل إلى نسب جنونية فاقت 260%، تحت ذرائع التطوير والتحديث، وكأن الحاجة إلى إنقاذ الأرواح أصبحت حكراً على من يملك المال.
قرار هيئة الإسعاف برفع أسعار خدماتها، وبرغم محاولات تبرير هذه الزيادات على أنها تأتي في إطار تحسين الخدمات وتلبية احتياجات المواطنين، أثار موجة من الغضب الشديد،
حيث بات واضحاً أن تلك الزيادات لن تُسهم سوى في حرمان شريحة كبيرة من المواطنين من الوصول إلى خدمات الإسعاف الأساسية.
فالأسعار لم تعد تقف عند حدود المعقول، بل تخطت كل التصورات، وخاصة في الحالات غير الطارئة، حيث ارتفعت تكلفة النقل لمسافة لا تتعدى 25 كيلومتراً داخل حدود المحافظة إلى 450 جنيهاً،
فيما وصلت إلى 625 جنيهاً للمسافات التي تتراوح بين 26 و50 كيلومتراً، و800 جنيهاً للمسافات التي تتراوح بين 51 و75 كيلومتراً.
لكن الكارثة لا تتوقف عند هذه الأرقام فقط، فقد شملت الزيادات أيضاً خدمات الإسعاف للمسافات الطويلة بشكل غير مسبوق،
حيث أصبح على من يحتاج إلى النقل لمسافات طويلة دفع مبالغ طائلة تتراوح بين 975 جنيهاً إلى 3775 جنيهاً، اعتماداً على بعد المسافة.
وفي الرحلات التي تتطلب الانتقال بين المحافظات، وصلت الأرقام إلى مستويات خيالية. فإذا كنت تسكن في جنوب سيناء وتحتاج إلى الوصول إلى أسوان، عليك أن تدفع 9100 جنيه،
وإذا كنت تعيش في مطروح وتحتاج إلى نقل مريض إلى أسوان، فالمبلغ المطلوب يصل إلى 9300 جنيه، أما إذا كنت في مجال السينما وتحتاج إلى سيارة إسعاف لتصوير فيلم،
فستدفع 49 ألف جنيه في اليوم الواحد، وكأن سيارات الإسعاف تحولت إلى سلع فاخرة لا يقدر عليها إلا الأغنياء.
وعلى الرغم من بقاء خدمات الإسعاف الطارئة مجانية، إلا أن انتقادات المتابعين كانت حادة وساخرة في آن واحد، حيث اعتبروا أن ما يحدث هو خصخصة مقنعة لخدمات من المفترض أنها تقدم لكل مواطن دون تمييز.
الحكومة، التي رفعت هذه الأسعار تحت ستار تحسين الخدمة، حولت ملائكة الرحمة إلى شياطين تجار، حيث بات الإسعاف لمن يدفع، والموت للفقراء.
ولم يعد غريباً أن نسمع شعارات مثل “الموت أرحم من طلب الإسعاف”، أو “الإسعاف لمن يملك المال”،
فالجميع بات يدرك أن المريض الذي لا يملك ثمن هذه الخدمات محكوم عليه بالمعاناة أو الموت البطيء في انتظار النجدة التي قد لا تصل.
هذه الزيادات التي تبدو مبررة من وجهة نظر الحكومة تأتي في ظل غياب تام لأي تطوير حقيقي لمنظومة الإسعاف،
حيث لا تزال شكاوى المواطنين من تأخر وصول سيارات الإسعاف تتكرر، وكأن كل هذه الأموال التي يدفعها المواطنون لا تذهب إلى تحسين الخدمة
بل إلى تعميق فجوة الطبقية بين من يستطيع الحصول على الرعاية الصحية وبين من يعجز عن ذلك.
فكيف يمكن تبرير هذه الزيادات في الوقت الذي يعاني فيه المواطنون من تدهور مستمر في جودة الخدمات، وتأخر في الاستجابة للحالات الطارئة؟
الأكثر إيلاماً هو أن هذه السياسات تتعارض بشكل صارخ مع ما نص عليه الدستور المصري، فالمادة 18 من دستور 2014 تؤكد على أن “لكل مواطن الحق في الصحة والرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة”،
وأن “الدولة تكفل الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب، ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل”.
لكن ما يحدث على أرض الواقع يكشف تناقضاً صارخاً بين هذه المبادئ وبين السياسات الحكومية التي تُفرغ هذه الحقوق من محتواها،
وتترك المواطن وحيداً في مواجهة نظام صحي يستنزف قدراته المادية، دون أن يقدم له شيئاً في المقابل.
وفي ظل هذا الوضع الكارثي، يمكن القول إن الحكومة اختارت الطريق الأسهل بتحميل المواطن فاتورة أي تطوير مزعوم، متجاهلة تماماً الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها ملايين المصريين.
فالخدمات التي كانت مجانية أو ذات أسعار رمزية حتى عام 2019 أصبحت اليوم رفاهية لا يقدر عليها إلا من يمتلك المال، في حين يستمر الفقراء في دفع الثمن من حياتهم وصحتهم.
إن هذه القرارات ليست مجرد زيادات في الأسعار، بل هي انعكاس لعقلية تتعامل مع المواطن وكأنه مجرد رقم يمكن استغلاله لجمع المزيد من الأموال.
فإن هذا المسار الذي تسير فيه الحكومة سيؤدي إلى مزيد من التدهور في مستوى الرعاية الصحية، حيث ستبقى الخدمات الأساسية متاحة فقط لمن يدفع، بينما يبقى الفقراء عاجزين عن الحصول على حقهم في الحياة.