موقف أى دولة من الترجمة يعتبر إنعكاس لموقفها من المعرفة إنتاجا وإبداعا، وقد تنحصر الترجمة فى كونها نشاط إجتماعى بينما هى إحدى أدوات تمكين المجتمع للتفاعل مع الجديد فى العلوم والفنون والإنسانيات قرينة الإبداع، فالترجمة أداة قوة لتحرير الأفكار وأداة تمكين للمجتمعات.
ولهذا نجد أن أكثر الدول تطورا وثقافة وعلما هى أكثرها إنتاجا للترجمة، ومن الملاحظ أن ترجمات العلوم لا تحتل عند العرب نسبة كبيرة بين ترجماتها بينما نجد دولا مثل إسبانيا، حسبما ذكر تتس روك، تترجم أكثر من عشرة آلاف عنوان سنويا وتترجم السويد 2500 عنوان من بينها ألف عنوان تقريبا أعمالا أدبية وألف عنوان دراسات علمية و500 عنوان من كتب الأطفال.
والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية تترجم تراث البلدان الأخرى لتكون بنك أو مصدر المعلومات للعالم، وفق الصياغة الأيديولويجية التى تراها ومن ذلك كتب عن الطب فى مصر الفرعونية، وعن التراث الإسلامى والفن المعمارى وغيرها من الفنون والآداب التى تميزت بها الحضارة المصرية القديمة.
وفى دراسة للدكتور محمود إسماعيل صالح الأستاذ بجامعة الملك سعود نرى أن سلاح الجو الأمريكى ترجم فى عام واحد ما يقرب من 75 الف صفحة أى ما يعادل 250 كتابا فى دراسات تخص المجال ذاته. وتشير الدراسة أيضا إلى أن هيئة حكومية واحدة هى هيئة الخدمات المشتركة للمنشورات البحثية والتابعة للمكتب الفيدرالى للمعلومات العلمية والثقافية فى وزارة التجارة الأمريكية ترجمت خلال النصف الأول من العقد السابع حوالى 274ألف صفحة أى حوالى 910 كتاب . بالإضافة إلى إصدار مجلس الشيوخ الأمريكى تشريعا يحمل اسم Title lV Defence Act يقضى بتشجيع تعليم اللغات الأجنبية فى المدارس الأمريكية باعتبار هذا الأمر قضية أمن قومى ونجد فى الولايات المتحدة الأمريكية أيضا أن وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” مولت إعداد دليل يضم عناوين الهيئات التى توفر المواد العلمية والتقنية المترجمة إلى الإنجليزية داخل الولايات المتحدة. ويتألف من 32 صفحة تشمل فقط عناوين تلك الهيئات التى يعتبرونها مصدرا لترجمة إنجازاتها العلمية العالمية فور صدورها، وتجدر الإشارة الى جهود اليابان التى وصلت بها إلى ما هى عليه الآن.
عمدت اليابان منذ مطلع القرن، إلى الإتفاق مع أهم دور النشر العالمية لترجمة أعمالها وصدورها باللغة اليابانية فى ذات الوقت الذى تصدر فيه بلغتها الأصلية. وكانت اليابان تترجم فى مطلع القرن أكثر من 1700 عنوان فى السنة. ويتجاوز العدد الآن 35 الف عنوان، أنه نهم التحصيل لإنجازات العصر . ولم تفقد اليابان هويتها بل تعززت أكثر. ونأمل أن تتحقق مثل هذه الأرقام فى عالمنا العربى وبذلك يكزن المنطلق عربيا نهضويا فى إطار إستراتيجية قومية للتطوير الحضارى شاملة كل مناحى الحياة. إذ أن الملاحظ أن قدرا كبيرا من نشاط الترجمة تديره وتنظمه وتموله مؤسسات أجنبية وما عداه نشاط عفوى لا يخضع لخطة بل هى جهود ذاتيه فردية من هنا وهناك.
ويبقى السؤال: ماذا أعددنا نحن للنهوض بمجتماعتنا؟ إن واقع الترجمة هو كاشف لحال المجتمع فى ضوء أبعاد متعددة: البعد المعرفي والثقافي والعلمي والتعليمي والإبداعي وهى جميعا متشابكة فى جديلة أو منظومة واحدة ذات عمق تاريخي إجتماعي وأيضا ذات مدلول إقتصادي سياسي.
بمعنى آخر: إن نشاط الترجمة دال على نشاط المجتمع سلبا وإيجابا، تقدما أو نكوصا على صعيد السباق الحضارى. ونلحظ أنه على الرغم من تواتر الحديث فى كل أنحاء العالم العربى عن الترجمة ونقل المعرفة خلال السنوات الأخيرة إلا أننا لم نخط خطوة عملية حقيقية على هذا الطريق. ولهذا فإن الدعوة موجهه إنشاء مؤسسة عربية للترجمة يندرج تحتها نقابات فى جميع الدول وتتضافر فيها الجهود لإحياء ودعم الترجمة بشكل مؤسسى رسمى يركن إلى أساس علمى يقدم فائده ونفع لجميع الثقافات والأجيال. وأن تكون هذه المؤسسة دعامة من بنية متكاملة لإستراتيجية تحول حضارى شامل لكل مجالات الحياة : التعليم، العلوم، السياسة، التنشئة الإجتماعية ، الإعلام ..إلخ.. وتظل الدعوة مفتوحة لكل من آمن بالخط العام للتطوير الحضارى.