في مشهد يجسد تناقضات صارخة بين وعود تتناثر فوق الساحة السياسية وبين واقع اقتصادي ضاغط، جاءت تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول أزمة الدولار لتلقي بظلال من التساؤلات حول المستقبل المالي والاقتصادي لمصر.
ففي 1 أبريل 2023 خرج السيسي ليطمئن الشعب المصري، قائلاً بكل ثقة أن أزمة الدولار ستصبح جزءًا من الماضي، وستتحول إلى “تاريخ”، متوقعًا أن تكون نهاية هذا الكابوس الاقتصادي قريبة.
إلا أن الواقع، بعد مرور أكثر من عام على هذه التصريحات، يبدو أكثر تعقيدًا، خاصة في ظل تصريحات جديدة أدلى بها السيسي في 12 أكتوبر 2024، عندما عبر عن إحباطه بشأن قدرة البلاد على إنتاج سلع بسيطة مثل ورق الفويل، الذي نستورده بقيمة تصل إلى 500 مليون دولار سنويًا.
إن هذا التناقض في التصريحات بين عامي 2023 و2024 يكشف بوضوح عن الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها مصر وسط أزمة عملة خانقة، والتي باتت تؤثر على كافة جوانب الحياة اليومية للمواطنين المصريين.
وبينما يرى البعض أن التطمينات التي أطلقها السيسي في عام 2023 كانت محاولة لتهدئة مخاوف الرأي العام المصري الذي يعاني من ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتراجع قيمة العملة المحلية، يجد آخرون في تصريحاته الجديدة مؤشرًا واضحًا على أن الأمور لم تتحسن بل ربما تزداد تعقيدًا.
الرئيس السيسي في خطابه عام 2023 بدا متفائلاً للغاية بشأن قدرة الحكومة على تجاوز أزمة الدولار، مؤكداً أن مصر تمتلك الأدوات والإمكانات اللازمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتخفيض الاعتماد على الواردات، مما سيؤدي إلى انخفاض الطلب على العملة الصعبة وبالتالي القضاء على الأزمة.
لكن مرور الوقت كشف أن الأزمة ليست فقط أزمة “إمكانات” أو “أدوات”، بل هي أزمة هيكلية ترتبط بالاقتصاد المصري المعتمد بشكل كبير على الواردات.
في عام 2024، عاد السيسي ليقول إن البلاد لا تزال غير قادرة على تصنيع ورق الفويل محليًا، وهو منتج يبدو بسيطًا مقارنة بالاحتياجات الصناعية الكبرى، لكنه يكلف الاقتصاد المصري نحو نصف مليار دولار سنويًا لاستيراده.
السيسي في هذا الخطاب بدا أكثر انزعاجًا، وهو يتساءل كيف يمكن لومه على ارتفاع سعر الدولار، في حين أن مصر تستورد سلعًا أساسية بكميات ضخمة ولا تزال عاجزة عن إنتاجها محليًا.
هذا التصريح يعد إشارة إلى أن الحكومة لم تنجح في معالجة التحديات الاقتصادية الرئيسية التي تمثل جذور أزمة الدولار، بل يبدو أن الحلول التي تم تقديمها حتى الآن لم تكن كافية أو ربما لم تنفذ بالشكل المطلوب.
تصريحات السيسي الجديدة لا تتعلق فقط بأزمة الدولار، بل تسلط الضوء على مشكلة أعمق تتمثل في اعتماد مصر الكبير على الواردات وعدم قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من القطاعات الصناعية والإنتاجية.
هذه المشكلة تمتد إلى العديد من المجالات الحيوية الأخرى، بدءًا من الصناعات الغذائية وصولًا إلى التكنولوجيا.
وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية أعلنت في أكثر من مناسبة عن خطط طموحة لتطوير الصناعة المحلية وزيادة الصادرات، إلا أن الواقع يظهر أن هذه الجهود لم تؤتِ ثمارها بعد.
وبالعودة إلى تصريحات السيسي في أبريل 2023، يمكن القول إنها كانت تهدف إلى إعطاء جرعة من الأمل للمواطنين المصريين الذين يعانون من تدهور أحوالهم المعيشية بسبب ارتفاع الأسعار وتراجع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار.
وفي الوقت نفسه، يمكن أن نرى فيها محاولة لطمأنة المستثمرين الأجانب الذين باتوا أكثر حذرًا في ضخ استثماراتهم في السوق المصري خوفًا من تأثيرات الأزمة المالية.
لكن مع استمرار الأزمة حتى أكتوبر 2024، يظهر أن المشكلة ليست فقط في الأمل، بل في ضرورة اتخاذ إجراءات جذرية لإصلاح الاقتصاد.
السيسي في خطابه الأخير يبدو وكأنه يعبر عن إحباطه الشخصي من عدم قدرة البلاد على تجاوز هذه العقبات رغم كل المحاولات.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن لمصر فعلاً التغلب على هذه الأزمة في المستقبل القريب؟ وهل الحكومة قادرة على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحويل تصريحات السيسي المتفائلة في 2023 إلى حقيقة واقعة؟
العديد من المراقبين يرون أن المشكلة تتجاوز قضية الدولار وحده، وأن الحلول المطلوبة ليست مجرد تخفيض في حجم الواردات أو زيادة في حجم الإنتاج المحلي.
الأزمة تتطلب إعادة هيكلة جذرية للاقتصاد المصري، من خلال تقليل الاعتماد على القروض الخارجية وتعزيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية المحلية. وحتى الآن، لم يظهر أن هناك رؤية واضحة لتنفيذ هذه الإصلاحات.
على الجانب الآخر، يستمر الجدل بين الخبراء الاقتصاديين حول مدى قدرة الحكومة المصرية على التعامل مع الأزمة.
فبينما يؤكد البعض أن مصر تمتلك الإمكانات اللازمة لتجاوز الأزمة في حال تم تطبيق السياسات الصحيحة، يرى آخرون أن المشكلة أكثر تعقيدًا وتحتاج إلى تعاون دولي وجهود محلية مكثفة لتحقيق تحسن فعلي.
في النهاية، تظل أزمة الدولار في مصر قضية محورية تؤثر على كافة جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ومع استمرار تراجع قيمة العملة المحلية وارتفاع تكاليف المعيشة،
يبقى السؤال المطروح: هل ستتمكن الحكومة من تقديم حلول واقعية تعيد الاستقرار الاقتصادي؟ أم أن التصريحات ستظل مجرد كلمات في مواجهة واقع مرير؟