في ذكرى الـ 30 لمحاولة اغتيال نجيب محفوظ .. حادث غادر وصراع الأدب مع التطرف
تمر الذكرى الثلاثون على أحد أكثر الأيام سوادًا في تاريخ الأدب العربي، ذلك اليوم الذي كان بمثابة اختبار لحياة الكاتب الكبير نجيب محفوظ، في محاولة اغتيال جبانة كادت أن تقتطع روح صاحب نوبل للآداب في 14 أكتوبر 1994.
يروي التاريخ كيف أن يد الإرهاب حاولت النيل من أديب صاحب سيرة طاهرة، استهدفته جماعات الجهل والتطرف، لاعتقادهم أن أفكاره تمثل تهديدًا لثقافتهم المظلمة.
ولكن ما حدث كان أكثر من مجرد محاولة اغتيال فاشلة؛ كان درسًا في الصمود، وفي مقاومة قوى الجهل والتكفير التي حاولت تحطيم أحد أعظم الأعلام الأدبية في التاريخ العربي.
تعود الحكاية إلى يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994، في ذكرى فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، الذي كان قد حصل عليها في مثل هذا اليوم من عام 1988.
كان محفوظ حينها يستعد للذهاب إلى ندوته اليومية في وسط القاهرة، حيث كان صديقه “فتحي هاشم” ينتظره ليقله. بينما كان محفوظ يهم بالصعود إلى السيارة، فجأة سمع صراخًا عميقًا، وبسرعة اقترب شابان يحملان سكينًا، ليس في يدهما ما يريدان فعله إلا أن يطعنوا الأديب الكبير، في رقبة تحمل مشروعا ثقافيًا استثنائيًا، وتحمل أفكارًا تجاوزت حدود الزمان والمكان.
كان الأديب في تلك اللحظة يحمل في طياته جزءًا من هوية مصر الأدبية والتاريخية، فكان هذا الهجوم محاولة لاستئصال مشروع فكري متكامل أضاء طريق الثقافة العربية لعقود.
وقع الحادث أمام مستشفى الشرطة في العجوزة، وهو ما ساعد على إنقاذ حياة نجيب محفوظ بشكل سريع، حيث تم نقله إلى المستشفى على الفور وهو في حالة حرجة جدًا.
ما إن وصل الأديب إلى المستشفى، حتى بدأ الأطباء في اتخاذ إجراءات طارئة لعلاج جرحه العميق الذي أصاب شريانًا رئيسيًا في رقبته، مما جعل حالته الصحية غير مستقرة تمامًا. ومع مرور الوقت، كان الأطباء يبذلون قصارى جهدهم لإيقاف النزيف وإصلاح الأضرار التي لحقت به.
ولكن في خضم هذه اللحظات الصعبة، خرجت زوجته السيدة عطية الله إبراهيم، لتطلب من محبيه الدعاء للأديب الكبير. كما سعت الصحافة آنذاك لنشر تفاصيل الحادث،
حيث كشفت أن خطة الاغتيال كانت تقضي بإرسال مجموعة من المتطرفين إلى بيت نجيب محفوظ، متنكرين في زي المعجبين، ليقدموا له الورود والشيكولاتة، ثم ينقضون عليه.
إلا أن الزوجة كانت يقظة ورفضت استقبالهم، لتسقط بذلك أول محاولة اغتيال، بل ربما كانت تلك الرفض لحظة فارقة في مسار محاولة قتل الأديب الكبير. فقد تم تحديد موعد لاحق للقائهم، ولكن قدر الله أن يكون اللقاء في هذا اليوم المشؤوم الذي كاد أن يزهق فيه روح محفوظ.
وعلى الرغم من أن الحادث كان محكومًا بالفشل، إلا أن آثار الحادث استمرت في تأثيراتها على حياة محفوظ، حتى لو لم تقتل الجسد، فقد كانت الطعنة مؤلمة لدرجة جعلت من نجيب محفوظ يدخل في صراع طويل من أجل الحياة.
وعن تفاصيل الحادث، روى اللواء محمد الحسيني، مدير مستشفى الشرطة وقتها، أنه فوجئ في يوم الجمعة بمجيء الأديب الكبير للمستشفى، وهو مصاب بجرح بالغ في رقبته. وصف الحسيني حالته بأنها كانت غير مستقرة تمامًا، فبدأوا على الفور في إعطائه الدم والعلاج اللازم لتوقف النزيف.
وعن عملية التدخل الجراحي التي خضع لها، أضاف الحسيني أن الدكتور أحمد سامح همام، أستاذ جراحة الأوعية الدموية، حضر سريعًا وأجرى عملية جراحية ناجحة بعد أكثر من ساعتين من الجهد المتواصل، حيث تم ربط الشريان المقطوع في رقبة محفوظ. هذا التدخل الطبي كان له دور كبير في إنقاذ حياة الأديب، رغم تقدمه في السن، حيث كان قد أتم عامه الـ88 وأجرى سابقًا عملية قلب مفتوح، بالإضافة إلى معاناته من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم.
مكث نجيب محفوظ في المستشفى نحو شهر كامل بعد تلك الواقعة، وخلال تلك الفترة تلقى العديد من الزيارات من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية. فقد زاره شيخ الأزهر، والبابا شنودة الثالث، والسيدة سوزان مبارك، بالإضافة إلى مجموعة من كبار الفنانين مثل أحمد مظهر، وشكري سرحان، وصلاح ذو الفقار، وفاتن حمامة.
كما كانت زيارة الدكتور يحيى الرخاوي، أستاذ الطب النفسي، من أبرز الزيارات التي استوقفت اهتمام الجميع، حيث كشف في كتابه “ذكر مالا ينقال” عن اللحظة العاطفية التي عاشها أثناء زيارة الأديب في المستشفى. وصف الرخاوي كيف كانت لحظة مؤثرة، حيث طلب الدكتور الحسيني من الأطباء مراقبته عن كثب خوفًا على صحته النفسية بسبب صدمته من الحادث.
لكن الأديب نجيب محفوظ لم يكن يهتم بجراحه أو ألمه الشخصي، بل كان يواصل التحذير من خطورة الجهل والتطرف الذي يهدد المجتمع.
وذكر الدكتور يحيى الرخاوي أنه كانت هناك مساحات كبيرة من الحوار بين محفوظ وزواره حول أزمة المجتمع المصري، وكيف أن مشروعات التنوير أصبحت في خطر بسبب الجهل الذي تتبناه جماعات متطرفة.
ولكن رغم كل هذه المعاناة، ظل محفوظ يتواصل مع محبيه وعبر عن تفاؤله في مواجهة التحديات. وقد برع في تجاوز هذه الحادثة رغم قسوتها، قائلاً إنه لا يحمل أي حقد أو ضغينة ضد من حاولوا قتله، بل ظل يعتقد أن هؤلاء كانوا ضحايا لأيديولوجيات متطرفة تروج للجهل.
وبعد مرور عدة أشهر، عاد نجيب محفوظ إلى ممارسة حياته الطبيعية، وإن كانت بعض عاداته قد تغيرت. فقد توقف عن المشي اليومي على كورنيش النيل، وهي عادة كان يمارسها يوميًا منذ عقود. ولكن ذلك لم يمنع المصريين من متابعة خطوات محفوظ، فقد أصبح اسمه رمزًا للثقافة والحرية الفكرية، رغم الهجوم المستمر من قوى التطرف.
لكن السؤال الذي لا يزال يُطرح حتى اليوم هو: لماذا كان محفوظ هدفًا للمتطرفين؟ الجواب يكمن في أن محفوظ كان يمثل أملًا في أفق ثقافي ينير الطريق أمام الإنسانية بأسرها.
فمنذ صدور روايته “أولاد حارتنا”، التي كانت تشكل تحديًا فكريًا ومفاجئًا للكثيرين، أصبحت حياته محط جدل دائم. ورغم أن تلك الرواية لم تكن هي السبب الوحيد في منحه جائزة نوبل، إلا أن موقفه المتوازن والمتفرد في محاربة الجهل والتطرف كان السبب الأساسي وراء كراهيتهم له.
ورغم أن الرواية “أولاد حارتنا” كانت قد تم منعها من النشر في مصر، إلا أن الكتاب كان متاحًا في الأسواق العالمية، ومن هناك انتشرت فكرته التي كانت تمثل ضربة قوية للتيارات المتطرفة.
وقد أكد المستشار أشرف العشماوي، قاضي التحقيقات في حادث محاولة الاغتيال، أن المتهمين في القضية اعترفوا بأنهم حاولوا قتل نجيب محفوظ بناءً على فتوى أصدرها الشيخ عمر عبد الرحمن، مفتي الجماعة الإسلامية، الذي اعتبر أن رواية “أولاد حارتنا” كفر.
إن محاولة اغتيال نجيب محفوظ كانت بمثابة الصدمة التي وحدت المجتمع الثقافي، وأظهرت كيف أن التنوير والفكر الحر كانا في صراع مستمر مع قوى الظلام والتطرف. فبينما كان محفوظ يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة في غرفة العمليات، كان الوسط الثقافي يعبّر عن غضبه من هذه المحاولة البائسة.
وعبرت العديد من المجلات الثقافية عن هذا الغضب، مثل مجلة “الهلال” التي خصصت ملفًا كاملاً لعرض حياة محفوظ وأدبه، إضافة إلى طرح أفكار حول مشروعه الأدبي وموقفه الثابت من قضية الدين والتنوير.
وبالرغم من هذا الهجوم الوحشي الذي تعرض له، إلا أن نجيب محفوظ لم يتوقف عن الكتابة، وظل يقدم لنا أعمالًا أدبية حافلة بالعمق والفكر، تبقى شاهدة على إرثه الكبير الذي لن يطاله التشويه أو التدمير.