في المقال السابق مباشرة، ذكرنا أن المادة 239 من الدستور أكدت على إلزام مجلس النواب بإصدار قانون منع ندب القضاة ندبا كاملا، أو جزئيا لغير الجهات أو اللجان ذات الاختصاص القضائي، وأن المجلس– أحد حراس صيانة وتنفيذ الدستور- قد نكس بما كان يجب أن يفي به في هذا الصدد،
ما يجعل دولاب العدالة محل قلق الكثير من القضاة أنفسهم، وكذلك محل إزعاج لكل المهتمين بالشأن العدلي في مصر من حقوقيين وسياسيين وداعمين لحرية الرأي والتعبير، ورافعين لرايات استقلال القضاء وحيادهم وموضوعيتهم،
ونابذين لكل أمر، يهدف إلى انحيازهم عن الطريق السوي الذي عبر عنه التراث الحقوقي في مصر، والذي يُظهر العدالة ومنصة القضاء كامرأة معصوبة العين بيدها ميزان المساواة وسيف العقاب، لا تميل إلى هوى أو تنحاز لسلطة.
راجع مجلس الدولة مشروع القانون الذي أعدته الحكومة، فرفضه كلية، معتبرا أنه انحاز لصالح بقاء ندب القضاة لجهات غير قضائية، ومن ثم تخوف من تسلط السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وكل ذلك ساهم في تجميد مشروع القانون وبقائه معلقا بين الحكومة وإدراج رئيس مجلس النواب،
دون أن يدري المهتمون بالشأن العدلي في مصر، أين هو المشروع الآن؟ ولماذا لم يصدر آخذا في الاعتبار ملاحظات مجلس الدولة؟ ولماذا لم يؤخذ رأي جهات أخرى بشأنه كالحوار الوطني أو نادي القضاة أو نقابة المحامين، حتى يرى النور، وتخرج مصر من غمة الندب التي ابتلي بها القضاء، وكأنه قد انتهى من مشكلات أخرى متعلقة بالاستقلال المالي والاستقلال الإداري، حتى تأتي لنا مسألة الاستقلال الوظيفي لتقف عثرة أمام الحق والعدل، رافعة (بيد السلطة التنفيذية) الحجاب من فوق عين المرأة معصوبة العين،
بسبب بقاء الندب لدواوين السلطتين التنفيذية والتشريعية، كاشفة عن العصابة فوق عينيها.
السؤال الآن ما العمل للقضاء على الندب أو هذا التضارب الكبير في المصالح؟
بعبارة أخرى، هل من بدائل يمكن من خلالها إنهاء هذا الأمر المؤلم، والتي تسعى السلطة التنفيذية من خلاله عبثا لإفساد القضاء، ولتمرير مشروع القانون، كما تريد هي، وليس كما يريد الشارع الدستوري، لا سيما وقد تجاوز الموعد الأقصى لسن هذا القانون مداه الدستوري الأقصى، وهو 18 يناير 2019.
وكيف للحكومة أن تقوم بذلك، وهي من سن قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972، وبه كلمة ندب أكثر من 16مرة، وكلمة “وزير العدل” مساوية في العدد لكلمة “قاض” (28 مرة)!!!
للإجابة عن هذا السؤال، يجب الإشارة بداية إلى أن نفرا من القضاة حتى الأكثر حساسية منهم إزاء مسألة استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، وهؤلاء كثر، يرون في الندب فرصة لتحسين دخولهم الزهيدة. وهم يعتبرون– وهذه حقيقة- أن ما يتلقونه من راتب محدود،
وأن طبيعة القاضي من الناحية المبدئية، هو أن يكون منزها عن العوز أو الفاقة، ما يجعله بالفعل قادرا على الظهور اجتماعيا بالمظهر المشرف أمام الدولة والمجتمع. ومن ثم كلما كان القاضي ميسور الحال وقادر على مواجهة أعباء الحياة وأسرته، ترفع عن قبول أية مغريات رسمية أو غير رسمية. ورغم أن تلك القاعدة تبدو حاكمة لكل موظفي الدولة،
إلا أنها تبدو أكثر ضرورة للقاضي، باعتباره حكما بين الناس والمؤسسات. على هذا الأساس، فإن زيادة الرواتب بشكل يليق بمكانة القاضي الرفيعة، هو أمر مهم للغاية ليس فقط له، بل لمن يفصل في دعواهم، والذين يهمهم دعم النزاهة والشفافية وتحقيق العدل، وبقاء العُصابة فوق العين.
فيما يتعلق بزيادة الدخول، من المهم أن نقارن على سبيل المثال بين القاضي والوزير، فالأول يحصل في متوسط عمره على ما يربو على 25 ألف جنيه شهريا، وبالمقابل يحصل الوزير، بعد استقطاع كافة الضرائب على الدخل، على 35 ضعف الحد الأدنى من الأجر،
وهو 6 آلاف جنيه شهريا، أي أن الوزير يحصل على إجمالي راتب قدره 210 ألف جنيه شهريا، أما مساعده أو نائبه؛ فيحصل على 30 ضعف الحد الأدنى أي 180 ألف جنيه شهريا!!!! أي منطق أو أي عدل هذا الذي يسمح بهذا الغبن، وهذا الفارق الشاسع والهوة الرهيبة، ليس بين القاضي والوزير فحسب، بل بين الموظف البسيط والوزير!!!!.
أحد الوسائل التي يمكن للقاضي، أن يعمل بها خارج سلك القضاة، هو أن تساعده السلطة القضائية في السفر إلى إعارة بالخارج. ففي بلدان الخليج على وجه الخصوص، سيتاح للكثير من القضاة تحسين أوضاعهم المعيشية، واستفادة البلدان الأخرى من خبراتهم، ما يجعلهم بحق سفراء لمصر في الخارج،
وأحد قواها الناعمة في ريادة الدولة المصرية، وتركيز أياديها البيضاء في تنمية القدرات البشرية في البلدان العربية المختلفة.
أما بالنسبة إلى الدولة بسلطتيها التشريعية والتنفيذية، فيبدو أن الحاجة إلى أسباب الاستعانة بالقضاة في تلك الهيئتين مبالغ فيها، وفي غير محلها. فالأمور التي يقوم بها القاضي في السلطة التشريعية، حيث يتم ندب نحو 200 قاض بها، وبمجلس الشيوخ على الأقل،
هذا العمل من الممكن، أن يقوم به أساتذة القانون من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات العامة والخاصة، فهؤلاء لهم قدرات إدارية كبيرة تفوق القضاة الذين تتركز قدراتهم في الفصل في المنازعات بين الناس وبعضهم وبين الناس ومؤسسات الدولة المختلفة، وهو عمل جليل لا يقوى عليه (أيضا) عضو هيئة التدريس بالجامعة. غاية القول،
إن خريجي الحقوق والحاصلين على التعليم فوق العالي في مجال القانون الدستوري والقانون العام وغيرهم، ممن يمكن أن تجري لهم مسابقات لنيل وظيفة مستشارين قانونيين للجان مجلس النواب ومجلس الشورى، ومثلهم في دواوين الحكومة سواء في وزارة العدل أو الوزارات المختلفة، هم الأجدر على القيام بمهام قانونية. وهكذا، فمن خلال هؤلاء،
يمكن أن تطلب الحكومة ندب من سيكون الاستعانة بهم غير ماس بشفافية ونزاهة القاضي، لأن الأخير ربما يُطلب منه عقب انتهاء أعمال الندب، أن يسدد فواتير للجهة التي انتدبته أو صاحبة الفضل في انتدابه، والقضاة بصفتهم معصومين من أي هوى غير علمهم وضمائرهم، لا يصح أبدا أن يتنازعهم أي هوى أو يغريهم مُغر.
على أنه بالمقابل، فإنه من الممكن لو لزم الأمر وحدث نوع من الاضطرار للاستعانة بأعضاء الهيئات القضائية من قبل السلطتين التنفيذية والتشريعية، أن يُشترط أن يتم ذلك، بأن يكون قبل نهاية مدة خدمة الشخص المنتدب مباشرة، والتي حددتها المادة 69 من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة1972 المعدل بالقانون 77 لسنة 2019، بـ 70عاما. فالقاضي المنتدب هنا،
يكون على شفا التقاعد، ولن يعود لعمله بعد انتهاء مدة انتدابه. هنا من الواجب أن يوقع القاضي على ما يفيد عدم عودته لعمله بعد الانتداب، تماشيا مع تنفيذ مواد الدستور وأغراضه وأهدافه المبتغاة والمتعلقة بعدم تضارب المصالح وعدم الندب لجهات غير قضائية، خشية المساس باستقلال القاضي.
بهذه الوسائل ووسائل أخرى، يمكن منع السلطة التنفيذية من المساس باستقلال القضاء، وفي ذات الوقت تحقيق رغبات القضاة في تحسين ظروف معيشتهم، وعدم تعطيل دولاب العدالة بتأخر الدعاوى في المحاكم.