مقالات ورأى

أيمن نور يكتب : أنا شافعي المذهب والهوى. أوراق من مذكراتي (12)

سألني محقق نيابة أمن الدولة في مقرها القديم بالجبل الأحمر، بداية الثمانينات: لمن تنتمي؟ فقداحترت فيك!! ناصري أنت؟ أم شيوعي؟ أم إخواني؟

ضحكت وقلت له بشجاعة الواثق من الخروج:- “أنا كل هذا، ولست هذا أو ذاك. فأنا شافعي

   إجابتي ربما أدهشت المحقق الشاب وقتها، عبد المجيد محمود ، الذي تدرج في المناصب حتى أصبح نائبًا عامًا.

كذلك، أدهشت الأستاذ أحمد الخواجة نقيب المحامين،الذي كان يحضر التحقيق إلى جانبي لصداقته بوالدي، وتزاملهم،الطويل في المهنة والبرلمان .

نعم، كنت ولا زلت على مذهبي، (شافعي الموقف والهوى). فرغم انتمائي لقبيلة قانونية، فأنا محام ،ابن محام، ابن محام، إلا أن دخولي كلية الحقوق جامعة المنصورة لم يكن لمجرد تحقيق تقليد عائلي، ورغبة اسريه.

فالحقيقة هي أنني اخترت كلية حقوق المنصوره لأكون قريبًا من دكتور الشافعي بشير.

تلك الرغبة كانت الدافع الحقيقي لقراري، رغم قدرتي على دخول كليات أخرى مثل الاقتصاد والعلوم السياسية أو الإعلام. اليوم، وأنا أخط هذه الكلمات بدمع ،وقلبي مثقل بالحزن، أسترجع ذكرياتي مع هذا الأستاذ الذي كان أكثر من مجرد معلم. جامعي ،بل كان الأب الروحي، والصديق الوفي، والملهم في حياتي.

الشافعي بشير لم يكن فقط علمًا في القانون، بل كان نموذجًا في الإنسانية، حيث غرس في نفوسنا حب الإنسان للإنسان، وعلّمنا أن الشجاعة في الرأي التي لا تتصادم مع الأدب في التعبير.

كانت رحلتي شبه الأسبوعيه لمنزله ب طريق الحرية، في الإسكندرية، والقريب من كلية الهندسة، هي نزهتي و وجهتي الثابتة بعد زيارة قبر أمي، في مقابر “المنارة” القريبة من منزله . كان يستقبلني بحب واهتمام، وكلماته و”ابتسامة الرقيقة” كانت تعيد لنفسي السكينة. فأعود منها وكأنني عدت طالبا بكلية الحقوق

. رحلتي مع أستاذي الشافعي تعود إلى أواخر السبعينات، حين كنت تلميذًا في المرحلة الثانوية وأترأس اتحاد الجمهورية لطلاب المدارس. وكانت محاضراته هي نافذة نطل منها على عالم مليء بالأفكار الجريئة . كان صوته هو الصوت والصديق ،كان صوت مصر الممنوعة من الكلام، يُعبر ببساطه عن آلامنا وآمالنا، ومواقفنا البريئة. عندما تعرضت للاعتقال عام 1981، كان خبر إبعاد الدكتور الشافعي بشير عن التدريس صدمة لي ربما أكثر من اعتقالي.

لكن عودته إلى الجامعة في عام 1982 كانت بمثابة تجديد للأمل. فكان هو رائدًا لأسرة “الإنسان” التي أسّسناها في الجامعة، مع الزملاء الاعزاء طارق عبدالعزيز و صلاح الامام و بسام عبدالكريم والزميلات إيزيس حمود و هانم طوبار وانضم للاسره الاف الاعضاء والعضوات بل ان الاسره انتشرت في العديد من الجامعات الاخري

وكان الدكتور الشافعي دائمًا داعمًا لنا في كل مطالبنا ومواقفنا وصدامتنا مع ادارة الجامعة وخلفها امن الدولة. لم تنقطع صلتي به بعد تخرجي، بل تعمقت أكثر. من خلال زياراتي شبه الأسبوعية لمنزله في الإسكندرية فكانت لقاءات مليئة بالود والحب

كان يستقبلني بكلماته التي تفيض أبوة، ويشعرني أنني دائمًا في المكان الذي أنتمي إليه. اننا نودّع اليوم علمًا من أعلام القانون، ورمزًا من رموز الوطنية المصرية. رحيل الدكتور الشافعي بشير عن عمر يناهز 91 عامًا أشعرني بفقدان قطعة عزيزه من ارض مصر رحيله افقدني جزءٍ من حياتي وذكرياتي. عالمًا، و معلمًا، وصديقًا

سطر في قلوبنا قيم الأدب والعلم والشجاعة، جعلنا نؤمن بأن الطريق إلى الحق لا يتناقض أبدا مع الإنسانية والخلق.فلن انسي له موقفا عظيما من مئات المواقف عندما منعتنا ادارة الجامعة من اقامة معرضا للصور عن مذبحه صبرًا وشاتيلا فقرر أن يفتح لنا أبواب نادي اعضاء هيئة التدريس بجامعه المنصوره،الذي أسسه، وكان رئيسا منتخباً له

وبعيداً عن السياسية كان من أبرز إنجازاته الأكاديمية كتابه “القانون الدولي العام” و”حقوق الإنسان في القانون الدولي”، التي كانت تُدرّس في كلية الحقوق، وأثرت في جيل كامل . كان الدكتور الشافعي بشير دائمًا يُعلي من قيمة الكلمة والرأي، ويعلمنا كيف نكون صوتًا للحق في كل مكان.

فقد أظهر شجاعة نادرة حين تناول في كتبه ومحاضراته موضوعات حساسة مثل اتفاقيات كامب ديفيد، مشجعًا الطلاب على التفكير النقدي وإبداء آرائهم الشخصية. إن رحيله ليس فقدانًا لشخص فحسب، بل هو فقدان لنور أضاء لنا الطريق.

ستبقى بصماته في قلوبنا، سنظل نذكرك يا دكتور في كل جملة نكتبها، وفي كل فكرة نحملها، وفي كل موقف نتبناه. إرثك سيبقى حيًا، وذكراك ستظل نورًا يهدي دروبنا. يا أستاذي وصديقي وأبي الروحي، نلتقي قريبًا في جنات النعيم، ان شاء الله،حيث يلتقي الأبرار، وستبقى ذكراك العطرة تُضيء قلوبنا دائمًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى