مصرمقالات ورأى

إسماعيل القريتلي يكتب: مستقبل العالم السني ما بعد الحرب في فلسطين ولبنان

ملاحظة منهجية

يناقش هذا المقال سيناريو محتمل لأوضاع العالم السني في ظل الحرب الإسرائيلية على فلسطين ولبنان واحتمال اندلاع حرب مع إيران.

وفرضية السيناريو التي يقدمها المقال تتوقع أن نتائج الحرب باتت تتضح وهي تميل لصالح إسرائيل. وتتأسس هذه الفرضية على مقدمات أولها استمرار حالة الخذلان (العجز) التي ظهر بها العالم السني تجاه المقاومة في غزة والضفة والأراضي المحتلة وفي لبنان، وثانيها: استمرار التماسك السياسي والاجتماعي في إسرائيل، وثالثها: استمرار الدعم الأميركي والغربي لإسرائيل.

ولا يركز المقال على تفسير موقف إيران القلقة من جرها لحرب إقليمية أوسع تضعها في مواجهة الولايات المتحدة وأوروبا إلى جانب إسرائيل في سياق العالم السني الرافض لها طائفيا وسياسيا.

تمهيد:

بعد عام من المقاومة في غزة ومن عناصرها في الضفة والداخل الفلسطيني المحتل، وضعف جبهة الإسناد من محور المقاومة خاصة من لبنان وإيران، وخذلان العالم السني أو عجزه سواء على مستوى النظام الرسمي أو النخب بشرائحها المختلفة، بعد هذا العام من العدوان والتصدي أضحت المآلات تتضح في حال استمرت الأوضاع على ما هي عليه -خاصة من جهة خذلان العالم السني- بأن إسرائيل وبدعم أميركي وغربي غير محدود ودون شروط ستفرض نفسها في الجغرافيا العربية والإسلامية.

ولن تتغير المآلات حتى لو دخلت إيران في حرب واسعة ومباشرة مع الغرب وليس فقط مع إسرائيل مادام العالم السني يتمترس بالخذلان تحت مبررات تسوقها نخب سياسية ودينية وثقافية تُفسح لها مساحات لتوجيه الرأي العام ضد إيران خاصة والمقاومة في فلسطين ولبنان عامة.

توسع حضور إسرائيل في العالم السني

ومن أولى تلك المآلات توسع الحضور (المرحلي) لإسرائيل في العالم السني برعاية ودعم أميركي لأسباب تتعلق بهيمنة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، (ليس بالضرورة لتحقيق المصالح القومية الأميركية كما يعتقد الدكتور جون ميرشايمر والدكتور جيفري ساكس)، وربما لأمر يتعلق بمصالح مجموعات الصناعة العسكرية وبيروقراطية المؤسسة المهيمنة التي تتخذ قراراتها بعيدا عن المصالح القومية الأميركية كما يرى الدكتور جوزيف باستيل، بل بعيدا عن المؤسسات الدستورية التي نص عليها الدستور الأميركي.

تسابق سني نحو التطبيع

ومن المتوقع أن ينطلق قطار التطبيع العربي والإسلامي دون أي رؤية تتعلق بفلسطين وبقية الأراضي العربية المحتلة في سوريا ولبنان، بل سيكون تطبيعا دون تفاوض جاد حول الحقوق الفلسطينية والعربية على منوال اتفاقيات أبراهام.

ووسط ضجيج قطار التطبيع الهادر ستبرز نخب تعيد قراءة المواجهات التاريخية مع إسرائيل على أنها خطيئة يجب التطهر منها وأن السلام (التطبيع) مع إسرائيل هو الخيار الإستراتيجي، الذي يحقق الاستقرار والتنمية والرفاه في العالم السني.

تراجع المقاومة وهيمنة الاستبداد

وينشأ عن هذا الاندفاع السياسي والثقافي من العالم السني تجاه التطبيع تراجع للمقاومة في فلسطين المحتلة ولبنان، وتجريم الداعمين لها في غالب العالم السني، للحد الذي يتساوى فيها مصطلح المقاومة مع مصطلح الإرهاب.

وستسعى نخب الحكم والثقافة في العالم السني لإعادة إنتاج تفسيرات دينية تعيد بناء فهم ووعي أجيال جديدة من خلال التعليم والإعلام والدراما والمعارض والنشاط الاقتصادي لتتقبل وجود إسرائيل في الجغرافيا الإسلامية السنية.

وليس مستبعدا أن تشهد المنطقة موجات عنف سياسي وأمني وكبت ثقافي ضد كل من يحاول رفض التطبيع أو ينادي بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ولبنان وسوريا أو يعارض التطبيع.

وقد نعيش مشهدا سياسيا وثقافيا وأكاديميا واقتصاديا يغرق في التطبيع، مع توسع القبضة الأمنية الحديدية في المنطقة التي تراقب أي مساعٍ لرفض الاندماج الصهيوني في الجغرافيا السنية.

تراجع الحضور الإسرائيلي

غير أن هذا الاندماج المؤقت لإسرائيل في العالم السني لن ينتهي إلى إحداث تغيير كامل للعالم السني أو (الشرق الأوسط) كما يرجح الكاتب الأميركي ليون هدار (بعيدا عن مسألة الاندماج التي لم يذكرها هدار).

ولعل أحد أسباب تراجع الاندماج الإسرائيلي في العالم السني بعد تغلغلها لفترة بدء بروز التناقض الأميركي الإسرائيلي الذي ستضطر معه الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم العلاقة مع إسرائيل ولو جزئيا بسبب تأثير استمرار الانخراط في الشرق الأوسط على تركيزها على العلاقة التنافسية الحادة مع الصين التي باتت تمثل التهديد الإستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة. كما أن ضغطا من بعض مكونات الرأي العام في الولايات المتحدة (القوى التقدمية بما فيها الأميركيون من أصول عربية ومسلمة) يرفض استمرار دعم إسرائيل دون شروط أو حدود، وسيتسع تأثير هذا التيار على الانتخابات الأميركية.

ميلاد جديد للمقاومة ورفض الاستبداد

وكما شهدت فلسطين وجغرافيا العالم السني حركات رفض ومقاومة بعد كل هزيمة أو تراجع للجهد العسكري المقاوم منذ الحملات الصلبية والغزو المغولي وإبان حقبة الاستعمار الأوروبي، فمن المتوقع ظهور حركات رفض جديدة تناهض التطبيع مع إسرائيل وكذلك ستتبلور تيارات فلسطينية مقاومة تقارع الاحتلال الإسرائيلي وأخرى تناضل ضد الاستبداد والتطبيع.

مراجعات نقدية ومقاربات جديدة

غير أن ظهور حركات مقاومة في فلسطين، وتيارات رفض للاستبداد والتطبيع في العالم السني لا يعني تحقيق هدف تحرير فلسطين، وإنهاء التطبيع والاستبداد والفساد في العالم السني؛ لأن تحقيق هدفي التحرير وإنهاء الاستبداد يتطلب تأسس المقاومة المستقبلية وتيارات رفض الاستبداد على مقاربة فكرية تعالج الاصطفاف في العالم الإسلامي بين السنة والشيعة، الذي تسبب تاريخيا في إضعاف الجغرافيا الإسلامية، وتسبب إلى جانب الانقسامات داخل العالمين السني والشيعي وإقصاء جمهور الأمة من المشاركة في الفضاء العام في تعبيد الطريق أمام الغرب والشرق منذ الحملات الصليبية والغزو المغولي ثم الغزو الأوروبي وصولا إلى تأسيس دولة لا تنتمي للعالم الإسلامي وهي إسرائيل.

التاريخ يؤكد أن تحرير فلسطين وسائر الأراضي العربية المحتلة حقيقة ستحققها الأجيال القادمة، غير أن الوصول لتلك الحقيقة ثم الحفاظ عليها تتطلب عملا فكريا يتصف بالنزاهة والعمق النقدي والقدرة على ابتكار التصورات والنماذج والمنهجيات والأدوات التي تعالج الانقسام بأنواعه في الجغرافيا الإسلامية. وكذلك تطوير نماذج ومقاربات توضح مفاهيم مثل الأمة والمجتمع والدولة وتحديد موقع الفرد المسلم في تلك النماذج، ومن ثم رسم العلاقات بين الفرد والمجتمعات والدولة والأمة.

هذا الجهد النقدي قد ينفع أن يبدأ بمراجعات عميقة وواسعة للتاريخ والأفكار والنصوص الحاكمة التي تمثل المرجعية المؤسسة للأفكار والموجهة لحركة التاريخ. فقد لا نكون نحن جيل التحرير ولكن يمكن أن نكون جزء من أجيال المراجعة والنقد والتفكير. مع أهمية قبول احتمال تعرض محاولات التجديد الفكري إلى قمع واضطهاد وتعنيف وهذا في حد ذاته أحد محركات نشأة اتجاهات جديدة للمقاومة في فلسطين والنضال في جغرافيا العالم الإسلامي وليس السني فقط.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button