فقدت جامعة المنصورة اليوم أحد أعلامها وأعمدة الفكر القانوني العالمي بوفاة الدكتور الشافعي بشير عن عمر ناهز الحادية والتسعين، ليطوي معه صفحة مشرقة من النضال العلمي والنضالي في سبيل استقلال الجامعات والدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الصحافة.
الرجل الذي عاش حياته محاربًا شرسًا ضد الظلم وقمع الحريات، لم يكن مجرد أستاذ قانون دولي بل كان فارسًا في ميادين الفكر وراعيا للأجيال الجديدة من الأكاديميين والمدافعين عن الحق والعدالة.
الدكتور الشافعي بشير، اسم يتردد صداه في أروقة جامعة المنصورة وفي أوساط النخبة القانونية على مستوى العالم.
منذ أن حصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي العام في عام 1963 لم يكن مجرد أكاديمي يسعى وراء المعرفة وإنما صوتًا يدوي من أجل حقوق الإنسان، الحريات الصحفية وكرامة الإنسان في مواجهة قمع الأنظمة وتجاوزاتها.
عاش بين الكتب والقاعات، لكنه كان على الدوام متواصلًا مع هموم المجتمع، داعمًا للنضال ضد الاستبداد ومدافعًا عن الحريات بكل ما أوتي من قوة.
بدأ مسيرته الأكاديمية بحصوله على ليسانس الحقوق بدرجة جيد في عام 1955، ومنذ ذلك الحين كانت رحلته العلمية حافلة بالإنجازات التي تعدت حدود القاعات الدراسية إلى رحاب المعارك الفكرية.
تدرج في المناصب الأكاديمية بدءًا من مدرس في 1964 إلى أستاذ مساعد في 1968، ثم أصبح أستاذًا في 1973، وبعدها أستاذًا متفرغًا في 1993 و2012 على التوالي.
لم يكن مجرد أستاذ عادي، بل كان أحد القادة الفاعلين في تطوير منظومة القانون الدولي وتأسيس علم متكامل في مجال حقوق الإنسان وحماية الحريات.
كان له دور كبير في تأسيس نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة المنصورة، وهو النادي الذي أصبح منصة قوية للدفاع عن حقوق الأساتذة والحفاظ على استقلال الجامعة ضد أي تدخل خارجي.
ظل الشافعي بشير طيلة حياته مهتمًا بقضية استقلال الجامعة، مدافعًا عنها بضراوة سواء على المستوى الأكاديمي أو السياسي.
لقد كانت قضيته الأكبر هي الحرية؛ حرية التعبير، حرية البحث العلمي، حرية الإعلام، وهي قيم لم يكن مجرد مدافع عنها بل كان قدوة في تجسيدها وتطبيقها.
منذ أن شغل منصب رئيس قسم القانون الدولي العام في جامعة المنصورة من 1974 حتى 1997، أحدث تغييرًا جذريًا في منظومة التعليم القانوني بالجامعة، حيث أسس لنهج جديد يقوم على الجمع بين النظرية والتطبيق، وربط الدراسة الأكاديمية بمشكلات العالم الواقعي.
لم تكن نظرته للقانون الدولي مجرد مجموعة من النصوص الجامدة، بل كان يرى فيها أداة لتحقيق العدالة على مستوى الدول والأفراد.
كان شديد الحرص على تعزيز فهم الطلاب والأساتذة لأهمية القانون الدولي في حماية حقوق الإنسان ومواجهة الجرائم الدولية.
من بين إسهاماته الأكاديمية والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه، كان له دور بارز في دعم أبحاث تناولت قضايا حقوق الإنسان، مثل آليات الحماية الدولية لحقوق الإنسان وأحكام القانون الدولي العام في مواجهة المخاطر التي تتعرض لها عناصر النقل الجوي،
والتفتيش الدولي على أسلحة الدمار الشامل في ضوء قواعد القانون الدولي العام مع التطبيق على العراق، والمشاكل القانونية المتعلقة بالحدود البولندية الألمانية.
كما أشرف على دراسة قانونية تناولت العلاقة بين الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقوانين الوطنية، ما أظهر اهتمامه الكبير بالقضايا الحقوقية والمقارنة بين التشريعات الوطنية والدولية.
شارك في العديد من اللجان العلمية الدولية والمحلية، حيث كان عضوًا في اللجنة العلمية الدائمة للقانون الدولي لوظائف الأساتذة في أكثر من دورة، وقد ساهم من خلالها في تطوير المناهج القانونية وتوسيع نطاق الأبحاث القانونية التي تركز على القانون الدولي وقضايا حقوق الإنسان.
وكان حضوره الدائم في المؤتمرات والدورات التدريبية الدولية، منها دورات تدريبية في سيراكوزا بإيطاليا، دليلًا على اهتمامه الكبير بالاطلاع على المستجدات العالمية في مجاله، وكان يحرص على أن ينقل هذه المعرفة إلى طلابه وزملائه في المجال الأكاديمي.
لم تكن الجوائز التي حصل عليها مجرد تكريم له على إنجازاته، بل كانت شهادة حية على دوره الريادي في دعم الفكر القانوني والحقوقي.
حصل على جائزة الجامعة التقديرية من جامعة المنصورة في عام 1990، وهي شهادة تقدير لما قدمه من إسهامات علمية وبحثية أثرت المكتبة القانونية العربية والدولية.
أما على مستوى الإشراف الأكاديمي، فقد كان مشرفًا ومحكمًا في العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، حيث ساهم في توجيه وتدريب أجيال من الباحثين القانونيين الذين يستمرون في حمل الشعلة من بعده.
كان يؤمن بأهمية إعداد كوادر قانونية قادرة على مواجهة التحديات العالمية والمحلية، وكرس جزءًا كبيرًا من حياته المهنية لتوجيه هؤلاء الباحثين نحو مواضيع تهم حقوق الإنسان، السيادة الوطنية، والمحكمة الجنائية الدولية، مع التركيز على القضايا التي تتعلق بالمسؤولية الدولية وحقوق الأفراد.
كان الشافعي بشير مدافعًا عن الحق حتى آخر لحظة في حياته، ولم يكن يخشى من قول الحقيقة مهما كانت التحديات. عاش محاربًا، ليس فقط من أجل العلم، بل من أجل الإنسان.
رحيله اليوم يعد خسارة كبيرة ليس فقط لجامعة المنصورة أو مصر، بل للعالم أجمع الذي فقد فيه أحد أبرز الأصوات التي دافعت بشراسة عن الحريات والعدالة وحقوق الإنسان.