إن المتابع لما يحدث في المنطقة يرى بكل وضوح عدم الاستقرار يلف المنطقة وينعكس ذلك على كافة الأصعدة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، وهذه الحالة ليست جديدة على شعوب المنطقة،
بل هي حالة ضاربة بجذورها في أعماق تاريخها الطويل، وقد اعتدنا على إلقاء تبعة هذا الأمر على تآمر الغرب والشرق عليها بحجج للأمانة أنا غير مقتنع بها، منها حجة نهب ثرواتها،
وأخرى بسبب موقعها الاستراتيجي في وسط العالم بين الممرات الدولية التي تربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب والذي يدحض ذلك أنها ليست المنطقة الوحيدة في العالم التي لديها ثروات، ولا موقع استراتيجي؛ لذلك بل من المؤكد أن هناك سببا آخر، ولعل حجة المقدسات هي إحدى تلك الأسباب التي جعلت المنطقة غير مستقرة طوال تاريخها، وأنا أميل لهذا السبب؛
لأنها المنطقة الوحيدة التي خرجت منها كل المقدسات الموجودة حتى اليوم، وهذه المنطقة تشمل بلاد فارس أيضًا التي بها أول وأقدم ديانة عرفتها البشرية، وهي الديانة الزرادتشية، التي استمدت من تعاليمها معظم مقدسات الآخرين.
إذن نحن أمام حالة علينا دراستها بشكل معمق بعيدًا عن عواطف المقدسات فيما إذ كنَّا مع هذا المقدس أم ضده، أو نعتنق ذلك ونلفظ الآخر، المنطقة لا زالت تعيش بصراع المقدسات،
ولا أدل على ذلك كحالة طازجة بتاريخ هذه المنطقة ما يعتنقه اليوم نتنياهو من فكر ديني سياسي، وحربه في فلسطين ولبنان التي يستمدها من مقدساته وتعاليمها التوسعية،
وبتلك العقلية لا يختلف نتنياهو وبن غفير وغالانت عمن سبقه ممن مروا على تلك المنطقة بذات الفكر الذي يستمد فكره من مقدسات يجب أن تنفذ حتى وإن كان ذلك على حساب دماء الشعوب.
عجلة الموت وساقية الدماء التاريخية يجب أن تتوقف عن الدوران، ولن يوقفها غير تفعيل العقل والمنطق، وتطبيق نظرية ما صح بالأمس ليس بالضرورة يكون صحيحا اليوم.
دون ذلك ستستنسخ المنطقة تاريخ دمائها كلما تغيرت موازين القوى بها بين مختلف الأطراف؛ وهذا ما يجعل لا مكان للعقل بها طالما أن المقدسات السياسية فوق كل اعتبار حتى وإن كانت على حساب دماء شعوبها بكل أطيافهم المذهبية ومقدساتهم الدينية لم يستثني التاريخ دم أي منهم،
والغريب العجيب أن جميعهم نزفوا دماء ولا زالوا ينزفون مصرين على الاستمرار في نزيف دماء بعضهم البعض دون أن يكون هناك مكان للعقل.
لذلك مرت وستمر شعوب المنطقة ولا زالت تمر بأزمة عقل وثقافة.
أجمل ما قيل عن الحروب وسخافتها: إنسان يقتل إنسانًا دون سابق معرفة.