من عمق الزنازين، حيث تُسلب الأرواح من حريتها وتُحجب عن الحياة، كتب الصديق المناضل يحيى حسين عبد الهادي وصيته بأن يُدفن بملابس الحبس الاحتياطي ليحاجج بها من ظلمه يوم القيامة.
إنها صرخة تُنسج آلاف الحكايات من الصمت، حكايات لم تُحك بعد، لكنها تحمل في طياتها صرخات الألم والوجع المكبوتة والمشاعر الجريحة. البدلة البيضاء التي طلب يحيى أن يُكفن بها هي التي تُرتدى في السجون كرمز لأصل البراءة، لكنها تتحول في هذا الزمن إلى كفن يحاصر الأرواح، مجسداً ظلمًا عميقًا لا يتوقف.
من خلال هذه الرمزية القوية، يفضح يحيى حسين فصلاً جديدًا من العذاب الإنساني. يحيى حسين عبد الهادي، ذلك الصوت الجريء الذي قرر أن يجعل البدلة البيضاء كفنه، ليكون هذا الكفن شهادةً حية على الظلم الذي طال حريته وكرامته.
صرخة يحيى ليست مجرد صرخة فرد، بل هي صرخة مجتمع بأسره، مجتمع يعيش في ظل الظلم ويقاوم الانكسار. حالة المهندس المناضل يحيى حسين عبد الهادي والآلاف مثله تفضح أن هذا الحبس الانتقامي لم يعد في العقد الأخير إجراءً مؤقتًا، بل أصبح كابوسًا دائمًا لآلاف المصريين، يُجردهم من إنسانيتهم ويعصف بحياتهم وبآمالهم.
استمرار هذا الوضع ينسف كل مبادئ العدالة ويثير تساؤلات حول النظام الذي سمح بأن يُصبح الظلم هو القاعدة.
أعي تمامًا مرارة الظلم، فقد ذقت هذا الظلم قبل وبعد خوضي الانتخابات الرئاسية عام 2005، فقد اعتقلت لخمس سنوات. وقبلها تم اعتقالي خمس مرات على مدار مراحل تاريخية مختلفة، بسبب مواقفي السياسية ورأيي. ومن ذاق الظلم يومًا، يعرف مرارته، ومن هنا يأتي تضامني الكامل مع يحيى حسين وكل يحيى حسين من المحبوسين والمعتقلين السياسيين في مصر الحبيبة التي لا تستحق أن يلحق بها هذا العار.
الدعوة التي أطلقها الحوار الوطني والرئيس نفسه لتعديل هذا الوضع كانت خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها لم تنعكس على أرض الواقع حتى الآن، وتبقى -بذاتها- غير كافية إذا لم تتبعها إجراءات فعلية لإصلاحات سياسية وحقوقية حقيقية وغير مغشوشة!
يجب الإفراج عن كل المحتجزين احتياطيًا دون تهم واضحة، وكذلك العفو عن كل السجناء السياسيين المحكومين بعد محاكمات غير عادلة.
كل يوم يمر دون تغيير في هذا التوجه هو يوم جديد يمر ثقيلاً كئيبًا على آلاف الأسر من المصريين المظلومين. الأمر لا يحتاج أكثر من إرادة سياسية حقيقية وقرار شجاع ومستحق يكون حجة لهم لا عليهم أمام التاريخ وأمام الحكم العادل يوم القيامة.
هذا الظلم المستمر ليس مجرد انتهاك للإنسانية وللدستور وللقوانين المصرية، بل هو انتهاك صارخ للمواثيق الدولية التي تنادي بحقوق الإنسان.
علينا أن نقف معًا، صوتًا واحدًا، للمطالبة بالإفراج الفوري عن كل المعتقلين والمحبوسين احتياطيًا بسبب آرائهم السياسية أو مواقفهم. فمن عمق تجربتي الشخصية كإنسان عاش ظلمات السجون لخمس مرات،
أقول: إن العدالة لا يمكن أن تُبنى على كومة من الظلم. دعونا نرفع أصواتنا من أجل مستقبل أكثر عدلًا، وحرية وكرامة إنسانية، حتى لا يتحول الكفن والبدلة البيضاء إلى رمزين دائمين للظلم، بل إلى دعوة للتغيير الحقيقي.
علينا أن نعمل بجد، ليس فقط من أجل الإفراج عن الأبرياء، ولكن أيضًا من أجل تحقيق إصلاح حقيقي يعيد للوطن كرامته وللمواطنين حريتهم. الحرية ليحيى حسين عبد الهادي وكل من يرتدي بدلة السجن البيضاء والزرقاء قبل أن تتحول إلى كفن.