تبدو “الطبلة و القانون” مسألة بسيطة، لكنها تخفي في طياتها صراعًا عميقًا يتغلغل في ثقافتنا وواقعنا الاجتماعي والسياسي.
نحن نعيش في زمن يتصارع فيه الحق مع الضجيج، حيث يسود الصخب والضوضاء، بينما يبقى صوت القانون الهادئ مُهملاً في الزوايا المظلمة.
وفي هذا المشهد، يُروَّج الباطل بصوت عالٍ، وكأن الحقيقة لا تجد لها موطئ قدم سوى في ظل الفوضى. هل حقًا انتصر الضجيج على الهدوء؟ إن واقعنا يعكس مأساة حقيقية؛ حيث يتعالى صوت الطبلة، وتغيب أنغام القانون، مما يجعلنا نتساءل: ماذا حدث للحق؟
نحن في عالم يسيطر عليه السطحية. كل شيء صار مسرعة ومبهرجة؛ الحقائق تتوارى خلف الفبركات، والمبادئ تختبئ وراء ستار من المصالح الشخصية.
الطبلة هنا رمز للطغيان الذي أصبح الصخب عنوانه الرئيسي، والقانون يمثل الفضيلة التي تُدفن تحت عبء الدجل والغوغائية.
انظر إلى ساحات الإعلام والسياسة، ستجد أن المشهد مليء بالكذب المُتكرر، يطبقون المقولة الشهيرة “اكذب حتى يُصدقك الناس”، أما الحقيقة، فتجلس في الزاوية دون أن تجد من ينصت لها.
لقد أصبحنا نعيش في مجتمع يحكمه ضجيج الطبول. هنا، يعلو الصوت الخالي من الجوهر، وتغيب القيم العميقة لصالح الإيقاع المستمر للفوضى. تلك الفوضى، التي لا تنتج شيئًا سوى المزيد من الخداع والغطرسة.
تمامًا كما قال مارسيل خليفة: “صوت الطبلة يعلو على صوت القانون.” إنه مشهد يتكرر يومًا بعد يوم؛ الحقائق العادلة تهمش بينما يتسلل الباطل، يعزف على أوتار الخداع بقوة وصلابة.
والسؤال الحقيقي هنا، هل باتت قضايانا بلا قانون يُدافع عنها؟ هل الحقائق التي نؤمن بها أصبحت باردة وساكنة، لدرجة أنها لا تستطيع حتى أن تحمي نفسها من طغيان الطبلة؟ خذ مثالاً على ذلك كم من مرة رأينا قضايا عادلة تُدفن لأن أصحابها لم يكن لديهم صوت صاخب؟
قضايانا كالمصريين هي دائماً عادلة، ولكننا نجد صوت القانون هادئًا وخافتًا في الخلفية. بينما تلك الأطراف التي لا تمتلك قضية حقيقية، ينجحون في الهيمنة على المشهد بقوة الصخب، يطلقون الأكاذيب بلا هوادة حتى تتحول الكذبة إلى حقيقة في أذهان الناس.
ليس هذا مجرد جدل موسيقي بين القانون والطبلة، بل هو تشبيه بليغ لواقع حياتنا الاجتماعية والسياسية. إن الذين يحتلون أغلب شاشات الفضائيات والصفحات الأولى في الصحف ليسوا بالضرورة أصحاب الحق والكفاءة،
بل هم أولئك الذين تعلموا كيف يستغلون صخب الطبول، يتقنون استغلال اللحظات وضبط الإيقاع حسب مصالحهم الشخصية، يرفعون شعارات زائفة ليتمكنوا من التحكم في عقول الناس.
نحن في زمن أصبحت فيه الحقيقة خافتة، كأنها تجلس على حافة الانهيار. السياسيون الحقيقيون والمثقفون الذين يناضلون من أجل قضاياهم، يواجهون بحائط من الصخب الزائف، حيث تسيطر المصالح المتشابكة على كل شيء. “المصالح تتصالح”، هي العبارة التي تعكس حالتنا الراهنة.
وفي كل مرة تهمس الحقيقة في أذنيك، تجد أن صوت الطبلة يعلو فوقها، كأن القانون – الحامي الأول للعدالة – قد انحنى تحت وطأة الدجل والكذب.
التاريخ ليس بعيدًا عنا. أمثال غوبلز، وزير الدعاية النازي الذي جعل من الأكاذيب سلاحًا يخيف به كل من يخالفه، ليسوا بعيدين عن المشهد الحالي. ثقافة الكذب المتواصل، الصخب الفارغ، والتلاعب بالعقول، كلها عناصر تتجلى اليوم في حياتنا.
لكن رغم كل هذا الصخب، هناك دوماً أمل بأن الحقيقة ستصمد. كما قال أبراهام لينكولن “لا يمكنك خداع كل الناس كل الوقت”. هذا هو الخيط الرفيع الذي علينا التمسك به.
والنهايات السعيدة ليست حكراً على الأفلام، بل قد تكون جزءًا من واقعنا إذا ما قررنا العودة إلى القانون الحقيقي. رغم صخب الطبول وإيقاعها الذي لا يتوقف، ستظل أنغام القانون الهادئة، نقية وراسخة، وستستعيد مكانتها.
لا يعلو صوت الطبلة إلى الأبد، وما هو مؤقت وزائف سيزول، بينما الحق الذي تمثله أنغام القانون سيظل راسخاً، رغم كل الصعوبات، كمنارة تشع بنور الحقيقة.
قد تكون المعركة طويلة ومريرة، لكن النتيجة الحتمية واضحة: الحق، مثله مثل القانون، سيظل دائماً موجودًا، وسينتصر في النهاية. هل نحن مستعدون لإعطاء القانون صوتًا؟ هل نحن قادرون على إخماد ضجيج الطبول واستعادة الوضوح والحكمة؟