في عالم مليء بالتناقضات، حيث يبدو أن القيم تتبدد وتتحول المبادئ إلى سلعة قابلة للمساومة، تبرز الشخصيات التي تدعي الدفاع عن الوطن، بينما هي في الواقع تتاجر بوطنها وتقبض الثمن.
هؤلاء الذين يزعمون الوطنية لم يبتاعوا سوى أوهام للناس، وباعوا وطننا الحبيب مصر مقابل مكاسب ضيقة، سواء بمقاعد برلمانية أو مناصب نقابية، أو حتى بعلاقات سياسية لم تثمر إلا في خدمة مصالحهم الشخصية.
إنها قضية كارثية تقف أمام أعيننا واضحة كالشمس، ولا يمكن إنكارها أو تجاوزها. فقد أصبح من السهل جداً أن ترى من يدعي حب الوطن وهو في الواقع لا يفكر إلا في ملء جيوبه وحماية منصبه، وكل هذا على حساب الشعب الذي يعاني في صمت.
عندما قررت الكتابة عن الشخصية الوطنية، لم يكن ذلك وليد لحظة عابرة، بل نتيجة استرجاعي لما كنت أشاهده منذ طفولتي، حين انخرطت في العمل السياسي في حزب الوفد منذ حوالي 34 عاماً.
وفي ذلك الوقت، كانت الوطنية تُشع من الرجال والنساء الذين قابلتهم في الحزب، وكان حب الوطن بالنسبة لهم مبدأً لا يقبل المساومة.
ولكن مع مرور الوقت، شهدت تغيراً جذرياً في النفوس والمبادئ. رأيت بعيني كيف تحولت تلك الشخصيات إلى كائنات أنانية، لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الشخصية.
فمنذ عام 2010، بدأ يتسلل إلى عالم السياسة والعمل النقابي مجموعة كبيرة من المرتزقة الذين لا يبحثون إلا عن كيفية الحصول على المال أو الحفاظ على الكراسي التي يجلسون عليها.
هذه التحولات لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت كارثة حقيقية انعكست على المجتمع ككل.
فقد أصبح من المعتاد أن تجد من يتقلدون المناصب يدعون الوطنية، بينما هم في الحقيقة يستغلون مواقعهم لتحقيق مكاسب شخصية.
والأدهى من ذلك هو عندما تجد تلك الشخصيات تتملق من هم في السلطة بغرض الحصول على مزايا أكثر، مثل تلك السيدة الـ “شَلَق” التي دخلت العمل السياسي ليس حباً في الوطن، بل من أجل تعيين ابنتها في إحدى القنوات الفضائية.
وعندما تغير رئيس الحزب، كانت أول من هاجمه وتملقت الرئيس الجديد لتضمن أن ابنتها تكون نائباً عن الشعب.
وهذا النفاق السياسي بات مشهداً مألوفاً، وكلما تغير رئيس الحزب، كانت تتبدل ولاءاتها بسرعة البرق، لتضمن المزيد من المكاسب، سواء من خلال تعيين ابنتها الثانية في مجلس النواب القادم أو غير ذلك.
هذه الأمثلة ليست مجرد حالات فردية، بل تعكس ظاهرة اجتماعية مدمرة. الوطنية الحقيقية أصبحت سلعة نادرة في زمن يطغى فيه حب الذات على حب الوطن.
لم يعد لدينا القدوة، الشخصية الوطنية التي يمكن أن تكون مثالاً يُحتذى به. غابت البيئة التي تُنمي فينا حب الوطن وتغرس في الأجيال الجديدة قيم الولاء والانتماء.
ومن هنا، يأتي هذا التدهور في الشعور الوطني لدى الأفراد، وهو أمر يمكن إرجاعه لأسباب عدة، لعل أهمها الغياب شبه الكامل للشخصية الوطنية الحقيقية.
الوطني الحقيقي ليس مجرد شخص يتغنى بحب الوطن، بل هو من يصون مصالح بلده ويعمل من أجل نهضته.
فالوطن ليس مجرد شعار، بل هو فكرة تتطلب تضحيات وجهوداً حقيقية. الوطنية ليست مجرد كلمات تُقال في خطابات سياسية، بل هي عمل واجتهاد مستمر لحماية مصالح الوطن والارتقاء به.
والوطنية الحقيقية تتطلب وجود سلطة رشيدة، حكيمة، وقوية، سلطة تعمل لصالح الشعب، وتحمي حقوقه وتصون كرامته.
ولكن ما نراه اليوم هو العكس تماماً. في ظل هذه الأوضاع، يبدو أن الشخصيات الوطنية الحقيقية تندثر تدريجياً، لتحل محلها شخصيات انتهازية لا تهمها سوى مصلحتها الشخصية.
والمشكلة الكبرى هي أننا أصبحنا نعيش في بيئة تشجع على هذا النوع من السلوكيات. عندما تكون المناصب والمال هما المعيار الوحيد للنجاح، فلا عجب أن نجد الوطنية تختفي وتظهر الأنانية.
في نهاية المطاف، لا يمكننا إغفال هذه الحقائق المرة. يجب أن نعيد النظر في مفاهيمنا عن الوطنية والشخصية الوطنية.
ويجب أن نعيد بناء بيئة تساهم في تنمية حب الوطن والانتماء الحقيقي له. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإننا سنواجه كارثة أكبر، حيث سنفقد ليس فقط الشخصية الوطنية، بل روح الوطن نفسها.