أمتعنا الكاتب الكبير الأستاذ الدكتورعبد الرحيم درويش بروايته الصادرة حديثا محققة ال ” البيست سيلر” The Best Seller الأفضل مبيعا “بريق فى عيون الجياع” . الدكتور عبد الرحيم كونه – غنيا عن التعريف – فهوأستاذ الدراما والتذوق الفنى بالعديد من الجامعات المصرية وحاصدا للعديد من الجوائز الهامة. تنتمى الروايه إلى “الدراما الإجتماعية”. حقق د- عبد الرحيم فى هذه الروايه ما يمكن أن نصفه بالسهل الممتنع فعند الإستهلال فى قراءه الرواية ربما يتوهم القارئ فى الجزء الأول من الرواية أنه يقرأ عملا روائيا بغرض المتعه والتسليه وذلك يعود إلى الإيقاع الهادئ للأحداث وبساطة الأفكار والسرد السلس البسيط على لسان “الراوى العليم” The Omniscient Narrator وهو تكنيك سردى يلجأ فيه الكاتب للراوى الذى تجرى على لسانه الرواية ويُعبر الكاتب من خلاله عن أفكار بطل الرواية ومشاعره وحديث نفسه لنفسه. يُقدم لنا الوصف بتفاصيله بلغة عربية رصينة لافته للنظر منذ الصفحات الأولى للرواية. نتعرف على إسم البطل ومكانته الاجتماعية بعد مرور عدة صفحات من بداية الرواية.
الإشارة والتلميح والأسلوب الغير مباشر دائما ما كانوا أسلوب الكاتب فى إعلام قرائه بما هم بصدده. فلم يُشر د. درويش إلى إسم بطل روايته “حسن” إلا بعد مرور عدة صفحات من بداية الروايه. ولم يُعلمنا مباشرة أيضا باسم المُحافظة التى يدور جزءا كبيرا من أحداث الروايه بها وآثر على ذلك التلميح والإشارة لقرائه بالمقولات الشهيرة المُتعارف عليها والتى تُطلق على بعض محافظات مصرفيستشف القارئ كلما أمعن فى القراءة هذه المعلومات يحركه فى ذلك عنصر التشويق والفضول فنجد رد أحد الأبطال “نحن لسنا بخلاء ، لا تصدق كل ما يُقال عنا”. فلا يجد القارئ بُدا من الإبتسام لتلك المقولة إبتسامة المعرفة التى طال إنتظارها فى الصفحات السابقه وتزداد الإبتسامة لما تثيره سمعه هذه المحافظة من دعابات ونكات متعارف عليها بين المصريين. مثال آخر على ذلك ظهر عندما لم يُشر الكاتب إلى زمن الرواية، بل يعرفه القارئ من خلال جملة مدسوسه فى حوار عادى بين الأم وبطل الرواية ” حسن” قائلة ” ثمن مكالمة المحمول يزيد على جنيهين فى الدقيقة الواحدة (فى إشارة إلى فترة التسعينات ثم يعود الكاتب ليؤكد انها نفس الحقبه الزمنية و ذلك من خلال الأغانى التى تسمعها “غادة” عندما سخرت من الأغانى القديمة التى يسمعها أستاذها الجامعى قائلة ” -نحن في جيل عمرو دياب وسميرة سعيد ولطيفة”وهنا تعود الإشارة إلى فتره التسعينات مرة أخرى ثم يرفع الكاتب تلميحه إلى درجة أعلى فيشير فى مستهل الفصل الثالث من الجزء الأول إلى زمن الأحداث ” وقبل أربع ليالٍ من الليلة الأخيرة من هذا العام من الألفية، وبالتحديد في ليلة السابع والعشرين من ديسمبر دون الإشاره مباشرة إلى تاريخ الأحداث والتى يستشف القارئ أنها تجرى فى عام 1999.
وبالرغم من أن المود الدرامى العام للرواية ليس به كثيرا من البهجة، إلا أنها لا تخلو من حس فكاهى يجعل القارئ يبتسم فى الحال، ففى وسط قتامة الأحداث والصراع المحتدم بين الخير والشر والقيم والفضيلة والإنحطاط والظلم والرذيله يبرز الكاتب بعض الومضات الساخره بحس فكاهى عالى يصيب الهدف فى إضحاك القارئ فى التو.
قدم لنا د.درويش وجبه دسمة من خلال شخوص يتداخلون ويتفاعلون مع بعضهم البعض من خلال شريط حياة الدكتور “حسن” الذى رباه أبواه على القيم والمبادئ وقيمة العلم. “حسن” الدكتور الجامعى الذى تحطمت المثاليات فى عينيه، وحُوربت الأفكار والمبادئ فى حياته حرب ضروس،وتعرض للعديد من المساومات للتنازل عن قيمه ومبادئه فى المدينة التى تشبة السيرك وينضح الفساد فى أرجائها من كل حدب وصوب و كل من قابله فيها متحجر القلب تحركه الماده والمصالح ولا شئ سوى ذلك. فى مشهد طويل يصورليله ممطرة يسير فيها الدكتور حسن على قدميه تمر بجواره ثلاث سيارات فارهه يحاول راكبيها أن يقلوه لسكنه . وجميعهم يحاولون مساومته على مبادئه بشكل أو بآخر وهنا رأيت سمه من سمات أسلوب الكاتب ألا وهى دمج القارئ فى سلاسه سردية بديعه تحوى العديد من التفاصيل ثم يغوص بالقارئ بشكل مُفاجئ لعمق رساله ما بعينها وتفاصيل لا يستشعرها سوى القارئ الذى يقرأ ما بين السطور. ومثال على ذلك عندما إستطاع الكاتب فى صفحتين متتاليتين ومن خلال مكالمتان هاتفياتان سريعتان أن يُنقل للقارئ الخلفية الثقافيه لأسره زميله “أحمد شعراوى” يستطيع القارئ دون التطرق لأيه تفاصيل أن يتخيل ما كانت عليه حياة أحمد الشعراوى وما مر به من جفاء عائلى و كيف يلفظه كلا من أبيه وأمه.
وفى الجزء الثانى من الرواية ينتقل الكاتب من تكنيك “الراوى العليم” إلى تكنيك سردى آخروهو تعدد الأصوات أو”البوليفونية” وهى خاصية سردية تنطوى على تعددية الأصوات ووجهات النظرعلى لسان شخوص الرواية وهو ما يصفه كاريل إيمرسون بأنه ” موقف تأليفى لا مركزى من شأنه أن يمنح صلاحية لجميع الأصوات” فابتعد بنا الكاتب عن تقديم “رؤية فردية” او السرد عن طريق “الصوت المونولوجى” كما فعل فى الجزءالأول،وآثر السعى لروايات درامية كليا تاركا الشخصيات تقدم الأحداث بوجهات نظر مختلفة لنجد أنفسنا أمام شخصيات متضاربة تتطورعلى نحو غيرمتزن ، فتتوالى ثلاثة أصوات نسائية فى الحكى عن قصصهما وعلاقتهما ببطل الرواية. فيعود بنا الكاتب إلى نفس الأحداث التى تعرضنا لها فى الجزءالأول ولكن من زوايا ورؤى أبطالها التى تجعلك كقارئ تستنير بالجانب الخفى من الأحداث وتجد نفسك تتعاطف تارة مع الأبطال وتغضب منها تارة أخرى فى مناورة من الشد والجذب بينك وبين أبطال الرواية. أول صوت يروى حكايته هى “نسمه دعدور” ويكفى عزيزى القارئ أن تتخيل ان “نسمه” برقة أسمها هذا هى إبنه “دعدور” تناقضا نجح فى رسم الشخصيات أكثر وضوحا وإستمال تعاطف القارئ مع نسمه التى هى ضحيه أبيها فهو رجل فحَّاش، بذيء القول والفعل وصل به الإنتقام حد قتل أمها وأصبحت وحدها معه تتجرع” جبروت أمراضه النفسية كلها بما فيها من صلف وغرور وزهو”
ينتاب القارئ نفس الشعور مرة أخرى عندما أشار حسن إلى فسخ خطبته من أميرة والتى مرت بنا -كما مرت عليه مُرورا يوحى بأنها هامشية بالنسبة له وكأن الأمر برمته لا يمثل له شيئا يُذكر فلا يحزن القارئ لفراقهما كما حزن مع أميرة وهى تسرد نهاية حبها له وإستمرارها على عهد الحب معه بالرغم من زواج كل منهما بآخر. وهذا ما حدث مع شخصيه “غادة نسر” أيضا فالقارئ ينفر منها فى البداية ثم يعود أدراجه ليتفهم أولا ثم يتعاطف ثانية مع الشخصية ولكن لا يسرى هذا التعاطف مع جميعهم فهناك شخصية “جاد” التى يمكن إختذال وصفها بجمله واحده جرت على لسان غادة ” زى المنشار طالع واكل نازل واكل” وهنا لم يجد منا أى تعاطف أو تفهم لتصرفاته السيكوباتيه وسلوكياته المنحرفة وكونه شخصا مستغلا طوال الخط الروائى. وكذلك نموذج ” السيد دعدور” الذى استحق نهاياته على يد أعداءه مجتمعين.
برقت عيون أبطال الرواية، كل بما يستثيره ويشتهيه، ف “موسى نسر” تبرق عيناه الجائعتين عند رؤيه الطعام فيصف لنا الكاتب طريقه تناوله للطعام ص108 “مر ما يقرب من نصف الساعه والرجل لا يزال يأكل ونفس البريق فى عينيه” وغادة نسر تبرق عيناها أيضا ولكن للسلطة فهى بذلت الغالى والنفيس للوصول إلى الكرسى الذى فقدت إتزانها النفسى بفقدانها إياه. وبرقت عين “أميره مصطفى” بحبها لحسن الذى لم يغادرها لحظة.الوحيد الذى برقت عيناه من أجل شيئا ساميا راقيا هو الدكتور حسن فتلفظت عيناه وكشفتا ببريقهما عن حبه للعلم وولعه بالمعرفة. وبرقت عيوننا نحن القراء أمام روايه ممتعه السرد والأسلوب إجمالا وتفصيلا. وتقدم توليفه من الحياة الإجتماعية مع الإشاره فى خلفية الأحداث إلى تطور الأحداث السياسة فى هذه الفترة منذ عام2011 وحتى إعتلاء الأخوان الحكم ثم إقصائهم منه وتلون البعض بلون كل فتره دون الثبات على مبدأ سوى مصالحهم الشخصية.
لا أعلم لماذا ذكرتنى الروايه بروايات الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس فتشعر وأنت تقرأ الروايه أنك أمام أكثر من روايه متداخله ببعضها البعض ببراعه وقاسمهما المشترك هو البطل “الشاطر حسن” أو الدكتور حسن”. فقصه نسمه وحدها بتفاصيلها هى تصلح أن تكون روايه كامله وكذلك الأمر فى قصه أميره, وقصة غادة. وهذا إن دل يدل على جود خيال الكاتب وثراء تجاربه وقدراته الروائية وواسع ثقافته كما تجد فى الروايه تنوع فى الإقتباسات فنجد شعرا لأبي فراس الحمداني وشعرا لامرؤ القيس ونجد مقاطع أغانى لأم كلثوم ومحمد فوزى وغيرها فتنقلك وأنت تقرأ إلى أجواء الرواية وكأنك تشاهد فيلما خفيف الظل كما تساهم فى نقل الشعور الوجدانى للأبطال بأسلوب تشويقى بعيدا عن الوصف المباشر. فالروايه تحمل فى طياتها خليطا من السلوك الإنسانى والعقد النفسيه والعواطف الإنسانيه وتتعرض بشكل أو بآخر لعده قضايا هامه لا يسع هذا المقال الحديث عنها تفصيلا مثل الإنتهاك اللفظى Verbal Abuse العنف المنزلى Domestic Violence والعقد النفسيه الناتجه عن تربيه الأبوين Parental Issues سواء من ناحية الأب تارة كما هو الحال مع “نسمه دعدور” أو من ناحيه الأم تارة أخرى مع “حسن” فنكتشف فى آخر أجزاء الرواية أن حسن ضحيه تربية أمه المتشددة التى أثرت على طريقة معاملته مع النساء طوال حياته بالرغم من كونها فى الروايه تُمثل صورة الأم المصرية الأصيله التى تتفانى فى رعايه إبنها و تعتنى به حتى أنها تقوم بكى ملابس النوم له ولكنها من فرط حرصها هى وأبيه على تربيته وجعله متميزا فى المجتمع بعلمه وخلقه ودينه مما جعله حريصا على هذا التميز أكثر من أى شيئا آخر حتى لو كان حقه الطبيعى من متع الدنيا. وأعتقد أن إختيار الكاتب لإسم حسن هو إختيارا متعمدا لما يحمله الإسم من دلاالات فإسم حسن يحمل إشارات إيجابية كثيرة فهو مشتق من الفعل “حسن” ويعنى الجميل والجمال هنا فى جميع صوره سواء كان جمالا خارجيا أو جمالا داخليا فى الخلق وهو يشير أيضا إلى الكمال والإتساق فى الصفات والأفعال ويرتبط أيضا بالفضائل الحميدة والأخلاق الكريمة وهذا ما تحلى به بطل الروايه وترسخ بداخله منذ طفولته من خلال والديه ثم تتوالى الأحداث بالدكتور حسن لنجده فى آخر الروايه منتصرا لمبادئه محققا أهدافه مُنعما فى سعاده مع أسرته. وهذه لفته من الكاتب تحمل قدرا من التفاؤل والإيجابيه والتأكيد على أن الخير لابد وأن ينتصر فى النهاية.
……….
د. دينا عبد الرحمن الدوى
ماجستير الأدب الإنجليزى
دكتوراه فى الترجمة