رغم الحرص الايراني الامريكي منذ نشوب معركة طوفان الاقصى على تكرار رغبة كل منهما “بعدم التصعيد “، إلا أن المشهد اصبح مربكا بشكل واضح لمعظم الخبراء والباحثين بل وصناع القرار انفسهم ، ومع ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية من تحقيق اسرائيل ضربات ” نوعية” بخاصة ضد أهداف بدت منذ فترة طويلة بأنها مستعصية على الاختراق الامني ،والتي تمثلت في مسلسل الاغتيالات الناجحة في طهران وبيروت وكانت الاكثر وهجا بل وشكلت استفزازا لعقل ووجدان اطراف محور المقاومة وجماهير هذا المحور…وهو ما دفع ايران لهجومها الاخير على اسرائيل والذي تبين ان نتائجه كانت اكبر مما ادعى الناطق الاسرائيلي وبعض وسائل الاعلام الاسرائيلية والتلاميذ العرب من مدرسة راند كوروريشين..وهو ما تبين من تفحص صور الأقمار الصناعية وتحقيقات عدد من المؤسسات الاعلامية الغربية.
وأعقب الهجوم الايراني تصريحات اسرائيلية متتالية حول “حتمية الرد” يرافقه تهديد ايراني بان الرد الاسرائيلي سيواجه برد ايراني اقسى من الاول، وهو ما يشير الى أن الدفع نحو مواجهات أخرى ما زال يفوق معوقات هذا الدفع. التساؤل المركزي هو :ما هي متغيرات اعاقة التصاعد السابق ؟ وما هي محفزاته وما هو المسار المحتمل ؟:
أولا :المعوقات:
أ- رغبة امريكية في لجم التصاعد ليبقى في حدود لا يتجاوزه لأسباب عدة منها:
1- ان المرشحيّن للانتخابات الرئاسية لا يريدا ان تدور الانتخابات في ظروف غير عادية ولا تؤدي لخلق التزامات امريكية عاجلة واتخاذ قرارات قد تكون متسرعة بخاصة في مرحلة انتقالية في مؤسسة الرئاسة لا سيما ان الراي العام الامريكي يعرف ” بعض التغير” في مواقفه التقليدية تجاه اسرائيل
2- ان النظرة الامريكية الاستراتيجية ترى ان يبقى التركيز على جبهتين أخريين هما اوكرانيا وتايوان ، ولعل الانشغال الامريكي في ازمة قد تمتد طويلا في الشرق الاوسط يمنح خصومها فرصة في هاتين الجبهتين لا يمكن استبعاد اقتناصهما لها.
3- ان اعتماد اوروبا على الولايات المتحدة كمورد أول للنفط لها سيزداد إذا تعطل النقل في الخليج العربي، وهو ما سيؤدي الى ارتفاع الاسعار في السوق الامريكية والتأثير على المخزون الاستراتيجي فيها.
ب- تدرك دول الخليج العربي بأن اتساع المواجهة مع ايران وحلفاؤها قد يمتد الى اراضيها في ظل التواجد الامريكي العسكري في هذه الدول واحتمال مشاركة هذا الوجود الامريكي العسكري في المواجهة، ونظرا لهشاشة المجتمعات الخليجية ، والتكلفة الهائلة لبنيتها التحتية وهو ما اتضح خلال الحرب مع اليمن ، فقد تسعى هذه الدول بصمت الى محاولة العمل على تجنب التصعيد قدر ما تستطيع رغم محدودية هذه القدرة.
ت- ان اشتعال المواجهة الاقليمية يتضمن مخاطر ضرب المنشآت النفطية ، بل واغلاق مضيقي هرمز وباب المندب حيث يعبر 20% من الطاقة العالمية ، ناهيك عن الاضطراب التام في النقل البحري والتجارة الآسيوية الاوروبية، وهو ما يوقع ضررا كبيرا لكل أوروبا التي تعاني من انقطاع الامداد الروسي لاغلب دولها وبنسبة تصل الى 82% ، مما دفعها لمزيد من الاعتماد على منطقة الخليج والشمال الافريقي ، وقد تؤدي الاحداث الى ارتفاع الاسعار للطاقة( البترول والغاز) ، ويكفي ان نعرف ان نفقات اوروبا على الطاقة في العام الماضي وصلت الى 349.58 مليار دولار ،وخلال الربع الاول من هذا العام وصلت الى 44.85 مليار دولار، مع ملاحظة ان الحاجة الاوروبية للنفط تزايدت في العام الماضي 7.7%.
ذلك يعني أن اوروبا ليست في وضع يدفعها لمساندة التصعيد نظرا للآثار الاقتصادية ، لكن ذلك لا يخفي هما آخر للأوروبيين وهو احتمال تدفق المهاجرين لها مرة أخرى إذا ذهب التصعيد نحو الشطط، وهو امر بدا الاوروبيون يتحسسون اوزاره استنادا لخبراتهم خلال عقد الاضطراب العربي الماضي.
ث- القلق الصيني من عدة زوايا، الاعتماد الكبير على النفط من دول الخليج واحتمالات انقطاعه او ارتفاع اسعاره، وفي كلٍ شر مستطير ،فهي تعتمد بما يفوق 50% من حاجاتها النفطية على دول الخليج ، كما ان مشروعها “الحزام والطريق” قد يتلكأ كثيرا في حالة تحول المنطقة لساحة حرب، مما يجعلها تعمل على لجم التصعيد.
ج- قد تكون مصر من أكثر المتضررين من التصعيد نظرا لزيادة خسارتها من مورد اساسي هو قناة السويس والتي تجاوز حتى الأن 7 مليار دولار، ناهيك عن تعثر السياحة، وتعد السياحة والقناة من الموارد الاساسية للخزينة المصرية، وقد يؤثر التصاعد وانتشاره الى عودة اعداد كبيرة من المصريين العاملين في الخليج على غرار ما جرى في حرب الخليج الثانية.
ح- الراي العام العالمي : رغم التاثير النسبي والمتواضع لهذا المتغير بخاصة في لحظة الازمة إلا انه لا يجوز اغفاله، ويكفي الاشارة الى ان بعض الاستطلاعات الاخيرة اشارت الى ان شعبية اسرائيل تراجعت في كل دول العالم باستثناء الولايات المتحدة التي ما زالت الغالبية من شعبها على موقفه رغم بعض التراجع فيه.
ثانيا: اما عوامل الدفع نحو المواجهة:
وتبدو هذه العوامل اضيق مساحة لكنها اقرب- في بعض ملامحها- لصنع القرار مباشرة ،ويكفي التأمل في الآتي:
أ- يبدو ان اليمين الحاكم في اسرائيل يميل الى ضرورة “حسم المعركة” بعد ادراكه ان التطبيع مع العالم العربي لم يجلب إلا غبطة عابرة ، وان انتقال المعركة الى ايدي قوى شعبية يجعل إدارة المعركة اكثر تعقيدا ، وعليه لا بد من الحسم في هذه المرحلة ، وقد تكون بعض النجاحات في الضربات ألامنية المتلاحقة عوامل تعزز غواية هذه الاستراتيجية اليمينية للتصعيد بخاصة ان النظام العربي الرسمي لم يبد اي تحد جدي لنزعة التصعيد الاسرائيلية.
ب- تراجع كبير في قوى الاعتدال الاسرائيلي ، فحزب العمل (بتسمياته المتعددة عبر التاريخ الاسرائيلي المعاصر) سيطر على الحكم في اسرائيل من 1948 الى 1977، لكنه الآن لا يمتلك الا اربعة مقاعد من 120 مقعدا، وإذا كان اسحق رابين قد فهم استراتيجية اسرائيل الكبرى على أنها “الكبرى اقتصاديا” فان اليمين الحاكم لا يراها الا “الكبرى أمنيا “، اي ان امن الدولة يعلو على امن النظام وامن المجتمع ، وأن شعار جابوتنسكي بأن التاريخ تصنعه الاحذية الثقيلة هو استراتيجية ناجحة من منظور هذا اليمين، فالعرب لم يطبعوا مع اسرائيل الا بعد تمريغ نظمهم وجيوشهم في وحل الهزائم واختراق مجتمعاتهم وتمزيق بنياتهم الاجتماعية .
ت- وثمة عامل لا يجوز تجاوزه وهو الدعم المؤكد من التيار المسيحي الصهيوني(الانجليكان) الذين يؤمنون من الناحية الدينية ان تجميع يهود العالم في “ارض الميعاد” هو البشارة بعودة المسيح ، والملاحظ ان هذا التيار له وزنه الهام في الولايات المتحدة بل وبدأ يتمدد في امريكا اللاتينية، ولعل وجود ممثلين اقوياء له في دوائر صنع القرار الامريكي يعزز نزعة التصعيد.
ث- نزعات قوى غربية وغير غربية لاجتثاث الاسلام السياسي بالقوة، فالى جانب تيارات امريكية واوروبية هناك دول أخرى لا ترى ضيرا من مساندة اسرائيل في اجتثاث هذا التيار بخاصة ان مركزه في الشرق الاوسط، فدول مثل الهند وأذربيجان وبعض دول آسيا الوسطى وافريقيا وامريكا اللاتينية (كالارجنتين) تساند هذا التوجه ، ناهيك عن رغبة لأنظمة سياسية عربية لا تقل توقا عن نيتنياهو في اجتثاث هذا التيار، بل ومعها بعض الشركات الامنية الخاصة والتي يرتبط الكثير منها باسرائيل وبقوى سياسية غربية من الذي يعتبرون النظرية الواقعية هي هاديهم للطريق الصحيح في إدارة العلاقات الدولية.
ج- من غير الممكن غض الطرف عن دور المجمعات العسكرية الصناعية في الدول الراسمالية التي تعد الحروب مصدر ربحها الاول، ويكاد المجمع العسكري الصناعي الامريكي هو الابرز في هذا الاتجاه، وهو ما يدفعه الى الدفع باتجاه مزيد من الحروب وبالتالي مزيد من مبيعات السلاح ، واشتعال الحرب في الشرق الاوسط هو فرصة ذهبية لهذا المجمع الذي له نفوذه وجماعات ضغطه في كل دوائر صناعة القرار الامريكي.
سيناريو الموازنة:
يبدو ان العرض السابق يشير الى رجحان كفة الضبط على الانفلات، لكن ذلك قد يدفع باتجاه تاثير متغيرات الانفلات على الضبط باتجاه “انفلات مرسوم” ، اي السماح بالتصاعد لفترة معينة ، فإذا تمكن احد الاطراف من الحسم(كما جرى في حرب 1967 بين العرب واسرائيل) فبها وَنِعْمَتْ ، ولكن إذا تحول الصراع الى النوع الممتد، فقد تتجه المساعي لايجاد تسوية لوقف اطلاق النار وتسوية بعض القضايا بقدر يخفف من بيئة التصعيد الى حين…لكن دون تسوية دائمة، وهو ما قد يفتح المجال امام تحولات في بعض النظم السياسية في المنطقة ،ولن تكون اسرائيل بمنأى عن ذلك.
وثمة عامل آخر قد يساهم في سيناريو الأنفلات المرسوم وهو الثمن الذي سيدفعه كل طرف في حالة الذهاب بالتصعيد لحدوده القصوى، فالاهداف الايرانية التي يمكن ان تركز عليها اسرائيل كالبنية التحتية لكل صناعاتها النفطية والعسكرية(نووية او غير نووية) وبعض مراكزها العلمية البحثية ناهيك عن المطارات والموانئ تشكل العمود الفقري للدولة الايرانية ،وكل هذه الاهداف معروفة لاسرائيل بشكل كبير ، لكن اسرائيل ورغم سعة مروحة الاهداف التي يمكن ان تكون هدفا للايرانيين ، فان العنصر البشري يمثل كعب أخيل في الجسد الاسرائيلي لا سيما وان اسرائيل تعيش في حالة ارهاق بسبب طول المواجهة الحالية التي لم تعهد مثلها مسبقا ، كما ان المساحة الايرانية (مليون 648 الف كليو متر مربع) يجعل القدرة على الوصول لاهداف متباعدة اكثر تعقيدا (فبنية برنامجها النووي تتوزع على مواقع التخصيب لليورانيوم ، مواقع المفاعلات النووية، ومناجم اليورانيوم ، ثم مراكز الابحاث، لكن المسافة بين مرافق هذه البنية تتراوح بين 30 الى 300 كيلو متر عن العاصمة طهران، كما ان تقارير وكالة الطاقة النووية التي تمارس التفتيش على بعض هذه المرافق تشير الى ان بعضها محصن بشكل ملفت بخاصة في انفاق داخل سلاسل جبلية معقدة.) ، اما العبء البشري فايران يصل عدد سكانها الى قرابة 90 مليون نسمة اي ما يعادل أكثر من عشرة اضعاف عدد اليهود في اسرائيل، وهو ما يعني ان الضغط الايراني على العنصر البشري الاسرائيلي قد يكون هو الاكثر وطأة بالقدر الذي يجبر اسرائيل على عدم الخروج عن استراتيجية الانفلات المرسوم، ومعلوم ان أكثر من 91.3% من سكان اسرائيل يعيشون في مدن ،مما يجعل الكثافة السكانية تصل الى الف ومائة و ثلاثة وعشرين نسمة في الميل المربع الواحد، فهل يكون الانفلات المرسوم هو الخيار الافضل لطرفي الصراع ويحقق توازنا بين معوقات التصعيد ومحفزاته؟ إن غدا لناظره قريب.