حرب أكتوبر: استعادة الكرامة وبداية جديدة للأمل العربي
فيما تتفاخر إسرائيل بما تسميه انتصارها الساحق في حرب يونيو عام 1967، يحق لمصر أن تُعيد تعريف انتصارها في أكتوبر 1973 بلقب حرب انتصار الأيام الستة. ولكن الفارق بين الحربين يتجاوز الاسم ليعكس واقعًا عسكريًا وسياسيًا معقدًا.
حرب 1967 انتهت بهزيمة ساحقة لمصر والعرب، بينما في أكتوبر 1973، تغيرت موازين القوى بعد اليوم السادس لصالح إسرائيل. فقد تكبدت القوات المصرية والسورية خسائر فادحة، وكأن انتصار الأيام الستة تحول إلى خيبة أمل.
استعاد المحارب العربي كرامته، مُظهرًا شجاعة وكفاءة قتالية لا تضاهى، لكنه لم يكن مسؤولًا عن إدارة الحرب، سواء عسكريًا أو سياسيًا.
كان صانع القرار يمضي في طريقه، غير عابئ باستشارات العسكريين والدبلوماسيين، وهو ما يكشف عن فشل في التنسيق بين القادة العسكريين والسياسيين.
لإلقاء الضوء على هذا الأمر، عدتُ إلى مجموعة من المذكرات عن حرب أكتوبر، كتبها عدد من الشخصيات البارزة مثل الرئيس أنور السادات، الفريق سعد الدين الشاذلي، والكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل،
بالإضافة إلى هنري كيسنجر وبعض الوثائق الأمريكية المرفوعة عنها السرية. كل هذه المصادر تلقي الضوء على التحولات الحادة في مسار الحرب وأبعادها الاستراتيجية.
الأهداف العسكرية والتحديات
بالنظر إلى الهدف من الحرب، ورغم الجدل القائم حوله بين “التحرير” و”التحريك”، يؤكد الفريق سعد الشاذلي أن الخطط العسكرية كانت تتلخص في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف، مع استعادة جزء من أرض سيناء.
كان الهدف هو تأمين السيطرة على الضفة الشرقية للقناة، بالتوازي مع استخدام جدار الصواريخ للدفاع عن القوات المتقدمة. لذا، كانت المعركة تتطلب التخطيط الدقيق والاحتياط المناسب، خاصة في ظل ضعف سلاح الطيران المصري مقارنةً بنظيره الإسرائيلي.
كان من الضروري أن تتخذ القيادة العسكرية قرارًا سريعًا بشأن تطوير الهجوم في عمق سيناء، واستغلال الارتباك الإسرائيلي بعد الضربة الأولى.
لكن، يبدو أن الإبلاغ المبكر للرئيس السادات عن عدم نية تطوير الهجوم قد أعطى إسرائيل فرصة للتعافي وإعادة تنظيم صفوفها، مما أفضى إلى تحولات دراماتيكية في مجريات القتال.
التأثير الأمريكي
لقد كان كيسنجر، بصفته مستشار الأمن القومي الأمريكي، له دور كبير في دعم إسرائيل أثناء الحرب. ففي الوقت الذي تكبدت فيه القوات المصرية خسائر فادحة،
بدأ كيسنجر بتعويض إسرائيل عن خسائرها من خلال جسر جوي عسكري ضخم. تم تحريك أسلحة ومعدات متطورة لصالح الجيش الإسرائيلي، مما أعطى دفعة جديدة لهم.
على الرغم من كون كيسنجر هو أحد مهندسي الدعم العسكري الإسرائيلي، إلا أنه لقي حفاوة بالغة من المسؤولين المصريين عند زيارته، وهو ما أبدى استغرابه في مذكراته. الكل كان في حالة من التودد، رغم أن موقفه كان يتعارض تمامًا مع المصالح المصرية.
القرارات العسكرية والسياسية
يشير الشاذلي في مذكراته إلى الخلافات بين القادة العسكريين ووزير الحربية، حيث كان الأخير مُطيعًا للسادات، مما أثر سلبًا على إدارة الحرب.
ورغم أن القادة العسكريين كانوا يتفقون على ضرورة تطوير الهجوم، فإن قرار السادات بعدم التقدم قد أضعف القوات المصرية.
وبالفعل، تكبدت القوات المصرية أضعاف خسائرها في الأيام الستة الأولى من العبور، حيث تم تراجع التقدم الميداني أمام القوة الإسرائيلية المتجددة.
لقد أُجبرت القوات المصرية على التقدم دون غطاء جوي، وهو ما أدى إلى خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات.
كان القادة العسكريون مدركين للإمكانات المحدودة للطيران المصري، لكن القرار السياسي كان فوق الاعتبارات العسكرية.
الثغرة واحتلال السويس
بدلاً من تعزيز المواقع المصرية، وجدت القيادة السياسية نفسها تفضل المضي قدمًا في توجيه خطاب سياسي يروج للنجاح.
في هذا السياق، استخدم هيكل مصطلح “ثغرة الدفرسوار” لوصف التقدم الإسرائيلي، وهي صياغة تعكس هزيمة غير قابلة للنقاش. بينما كان الشاذلي يؤكد أن الموقف العسكري كان يتطلب التحصين والدفاع بدلاً من التقدم دون حذر.
لقد كان على القيادة العسكرية اتخاذ قرارات سريعة لمواجهة التحديات الجديدة. في حين أن بعض القادة العسكريين كانوا يرون في تطوير الهجوم خطوة ضرورية، فإن التحذيرات كانت تُهمل من قبل صانع القرار.
التخلي عن المكتسبات
مع تفاقم الأوضاع، أُجبرت القوات المصرية على قبول اقتراحات كيسنجر التي أدت إلى انسحاب القوات المصرية من مواقعها.
كانت هذه الخطوة هي بمثابة التخلي عن المكتسبات العسكرية، مما أضعف موقف مصر في المفاوضات اللاحقة. وعلى الرغم من أن السادات كان يعتقد أنه يتفاوض من موقف قوة، فإن الواقع كان مختلفًا تمامًا.
انتهى الأمر بأن تركت القوات المصرية على عمق عشرة كيلومترات فقط داخل سيناء، مع قوات حفظ السلام الدولية تفصلها عن القوات الإسرائيلية. لم يتبق سوى عدد قليل من الجنود والدبابات، مما شكل ضربة قاسية للمعنويات.
الاستنتاجات
تجربة حرب أكتوبر كانت مليئة بالتحديات، وكشفت عن تباين بين الرؤية العسكرية والقرار السياسي. بينما استعاد المحارب المصري والعربي بعضًا من كرامته، إلا أن الفشل في التنسيق بين الجانبين العسكري والسياسي أدى إلى تحول النصر المبدئي إلى خسارة مؤلمة.
إن الأبعاد المعقدة لهذه الحرب تستدعي دراسة متأنية وتفهمًا عميقًا للقرارات التي اتُخذت، والكيفية التي أثرت بها على مجريات الأحداث.
وتبقى حرب أكتوبر علامة فارقة في تاريخ المنطقة، تمثل درسًا قاسيًا حول التحديات التي تواجهها الأمة عندما يُغلب القرار السياسي على الاعتبارات العسكرية.