لطالما اعتبرت حرب أكتوبر 1973 إحدى أكثر اللحظات الحاسمة في تاريخ الأمة العربية، تلك اللحظة التي أصابت الروح في الصميم وأجبرتنا على إعادة النظر في معنى الانتصار والهزيمة.
كيف يمكنني، بعد مرور عقود طويلة، أن أظل صامتاً تجاه حدث كان يجب أن أتحدث عنه بجرأة منذ البداية؟ إن التفكير في تلك الحرب لا يزال يثير بداخلي مزيجاً من الحماسة والغضب، الحزن والفخر، وكأنني أعيش كل لحظة من تلك المعركة مجدداً.
لقد أضعت فرصة الحديث عن تلك الحرب سابقاً، ليس لأنني لم أكن أملك الكلمات، بل لأنني تركت شجاعتي تتآكل مع الزمن.
والآن، بينما أبحث في أعماق ذاكرتي، أدرك أنني لم أكتب عن هذا الحدث من قبل لأنني كنت أعيش في خوف من تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، ومن تجاهل مشاعر لم تكن جاهزة للخروج.
لكن الآن، وقد مرت كل تلك السنوات، أدرك أنني أخطأت. الحرب ليست مجرد معركة دارت في ساحات القتال، وليست فقط سجلاً لتفاصيل عسكرية أو انتصارات تكتيكية. إنها حدث غيّرنا جميعاً بطرق لم نكن نتوقعها.
نحن كجيل، نشأنا في ظلال تلك المعركة، تعلمنا من صمود أبطالها، وكبرنا ونحن نروي قصصهم وكأنها أساطير خالدة. لم تكن مجرد معركة أسلحة وجنود، بل كانت معركة للروح، للكرامة، لمعنى الوجود نفسه.
لا يمكنني أن أتجاهل أنني، كإنسان عاصر تلك الفترة، كنت شاهداً على أحداث كبرى. ورغم أنني لم أكن على الجبهة، إلا أنني كنت جزءاً من هذا المجتمع الذي حمل تبعات تلك الحرب على كاهله.
إنها ليست حرباً فقط للأبطال الذين قاتلوا بشجاعة في الميدان، بل هي أيضاً حرب لكل من عاش في زمنها وتشكّل وعيه بناءً على نتائجها.
كنت أظن أنني سأكون قادراً على تجاوز هذا الحدث، لكنه لا يزال يعيش داخلي، يحفزني، يذكرني بأن هناك قصصاً لم تُروَ بعد، ومشاعر لم يتم التعبير عنها بصدق كافٍ.
عندما نتحدث عن حرب أكتوبر، فإننا نتحدث عن فخر وشجاعة وتحدي ضد قوى كانت تعتقد أنها لا تُهزم.
كان التحدي الأكبر ليس في الانتصار العسكري فقط، بل في إعادة بناء النفوس التي كسرتها النكسة.
لقد كانت حرباً لإعادة كرامة شعب كامل، شعب أنهكه الشعور بالعجز أمام قوة عظمى، ليكتشف فجأة أن بإمكانه قلب الموازين، وأن الهزيمة ليست قدراً محتوماً.
ما أدهشني في تلك الحرب ليس فقط الانتصار الذي تحقق على الأرض، بل الأثر العميق الذي تركته على نفوس الناس. إنها لم تكن مجرد حرب جيوش، بل كانت صراعاً وجودياً يعيد تعريف معنى الكرامة والانتماء.
عندما استعاد المصريون والسوريون والعرب عموماً ثقتهم في أنفسهم، لم يكن الأمر مجرد استعادة أراضٍ، بل كان استعادة للكرامة، للروح التي كانت مفقودة بعد الهزيمة.
كنا نحتاج إلى تلك الحرب ليس فقط لتحقيق نصر عسكري، بل لتحقيق نصر معنوي يعيد لنا ثقتنا في قدرتنا على التحدي والمقاومة.
لقد كانت حرب أكتوبر أيضاً بمثابة تحدٍ لنا جميعاً كأفراد. كانت تختبر قدرتنا على الصمود، على الإيمان بالمستقبل رغم كل شيء.
بالنسبة لي، كانت تلك الحرب لحظة فاصلة في حياتي، لحظة علّمتني أن النصر لا يُقاس فقط بالنتائج المادية، بل أيضاً بما نتركه للأجيال القادمة من قصص شجاعة ومقاومة.
كبرنا ونحن نروي تلك القصص لأبنائنا، نحكي لهم كيف أن أجدادهم لم يستسلموا، بل وقفوا في وجه التحديات وأثبتوا أن الانتصار ممكن.
إنني الآن، وبعد كل تلك السنوات، أدرك أنني لم أكن صامتاً تماماً، بل كنت أجمع القوة والشجاعة للحديث عن تلك اللحظة التاريخية.
إن الكتابة عن حرب أكتوبر هي ليست فقط إعادة سرد للتاريخ، بل هي أيضاً استعادة للروح التي كانت جزءاً منا.
إنها لحظة للوقوف بفخر أمام مرآة الزمن والتذكير بأننا كنا، وما زلنا، قادرين على مواجهة التحديات والوقوف بقوة في وجه الأعداء.