تقاريرذاكرة التاريخ

معهد فؤاد الأول الأزهري بأسيوط: تحفة معمارية إسلامية تتجسد في قلب الصعيد

في قلب مدينة أسيوط، يتربع معهد أسيوط الأزهري، المعروف سابقًا باسم “معهد فؤاد الأول”، كأول معهد أزهري أنشئ في صعيد مصر.

ومنذ افتتاحه في عام 1939 على يد الملك فاروق، بقي هذا المعهد صرحًا تعليميًا ومعماريًا يعكس روعة الفن الإسلامي الأندلسي.

وهذا المعهد ليس مجرد مكان للدراسة، بل هو جزء من تاريخ مصر العريق الذي يربط بين التراث الإسلامي والفن المعماري الفريد.

البدايات: من رحم المعاناة إلى نور العلم

تعود فكرة إنشاء معهد فؤاد الأول إلى عام 1915، حيث شق على أهالي أسيوط إرسال أبنائهم إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف.

جاءت المبادرة من الأهالي الذين جمعوا التبرعات لتأسيس معهد ديني في المحافظة لتخفيف العبء عن أبنائهم.

وهذا الجهد وصل إلى السلطان حسين كامل، الذي أصدر مرسومًا بإنشاء معهد تعليمي لتدريس العلوم الدينية والشرعية.

تم اختيار مسجد اليوسفي في البداية كمقر للمعهد، وتقدم للدراسة فيه نحو 200 طالب، ولكن مع مرور الوقت وزيادة عدد الطلاب، أصبح المسجد ضيقًا.

وبعد سنوات، تجددت المبادرة من أهالي أسيوط لتوسيع المعهد أو نقله إلى موقع جديد، وهو ما تحقق في عام 1930 عندما تم وضع حجر الأساس للمبنى الجديد في منطقة الحمراء بجوار نيل أسيوط.

تشييد الصرح: الفن الإسلامي الأندلسي في أسيوط

استمر بناء المعهد لمدة أربع سنوات، وتم تصميمه على الطراز الأندلسي الذي يجسد روعة العمارة الإسلامية في تلك الحقبة.

واكتمل البناء في عام 1934، ولكن نظرًا لمرض الملك فؤاد الأول، تم افتتاح المعهد رسميًا في عام 1939 على يد خليفته الملك فاروق.

وشيد المعهد على مساحة تبلغ 4 أفدنة و8 قراريط وسهمين، ليكون واحدًا من أبرز المعالم التعليمية والدينية في مصر.

يعتبر معهد أسيوط الأزهري تحفة معمارية لا مثيل لها، ليس فقط في صعيد مصر، بل على مستوى البلاد بأكملها.

والمبنى مزين بتفاصيل معمارية دقيقة تعكس الطراز الأندلسي الإسلامي، مع استخدام مواد بناء من الحجر والرخام والأخشاب الفاخرة. يحتوي المعهد على ثلاثة مبانٍ رئيسية: مبنى للدراسة، مبنى للإقامة، ومبنى للمسجد.

التحول إلى معهد تاريخي بعد حركة يوليو 1952

بعد حركة يوليو 1952، تغير اسم المعهد من “معهد فؤاد الأول” إلى “معهد أسيوط الأزهري للبنين”، في محاولة لفصل الأسماء الملكية عن المؤسسات التعليمية والدينية.

ورغم هذا التغيير، استمرت المكانة العلمية والدينية لهذا المعهد في الازدهار. وفي عام 1987، صدر قرار من رئيس مجلس الوزراء رقم 1692 باعتبار المعهد وملحقاته أثرًا تاريخيًا يخضع لإشراف وزارة الآثار، مما يضيف إلى قيمته التاريخية والمعمارية.

اليوم، يعتبر المعهد مزارًا مهمًا لطلاب العلم، والزوار الذين يأتون لرؤية هذه التحفة المعمارية. كما أصبح المعهد يتبع ثلاث جهات رئيسية: وزارة الآثار التي تشرف عليه كمبنى أثري، والأزهر الشريف الذي يدير العملية التعليمية، وإدارة الحدائق بالأزهر التي تشرف على حدائق المعهد.

المباني الثلاثة: مزيج من العلم والفن والتاريخ

يتألف معهد أسيوط الأزهري من ثلاثة مبانٍ رئيسية. المبنى الأول مخصص للدراسة، ويتكون من طابقين يحتويان على فصول دراسية، قاعة لعرض الأفلام العلمية، ومعامل لعلوم الأحياء والكيمياء والفيزياء.

وهذه المعامل تحتوي على مواد علمية وأثرية تعود إلى تاريخ إنشاء المعهد، وتضم حفريات نادرة استخدمت في تدريس العلوم الطبيعية. كما يتوسط فناء المبنى حديقة مستطيلة تتوسطها نافورة رخامية بديعة الصنع، تضيف جمالية خاصة للمكان.

أما المبنى الثاني فهو مخصص للإقامة وإعاشة الطلاب الوافدين. يتكون هذا المبنى من ثلاثة طوابق، ويضم غرف معيشة ومرافق ترفيهية للطلاب، إلى جانب مكتبة ضخمة تحتوي على 22 ألف كتاب ومجلد من نوادر الكتب العلمية والدينية.

وهذه المكتبة هي واحدة من أكبر المكتبات في مصر، وتحتوي على مجموعة من المخطوطات النادرة التي تعود إلى قرون مضت، مما يجعلها كنزًا علميًا ودينيًا لا يقدر بثمن.

المبنى الثالث هو المسجد الذي يتوسط المجمع. يتميز هذا المسجد بمئذنته الشاهقة التي يبلغ ارتفاعها 30 مترًا، والتي تُعد معلمًا بارزًا في مدينة أسيوط. استخدم هذا المسجد لتعليم الطلاب فنون الخطابة، وشهد على مدار عقود خطبًا ألقاها كبار العلماء والمشايخ.

المكتبة: كنز من المعرفة

تعتبر مكتبة المعهد من أهم ما يميزه، حيث تزخر بالكتب والمخطوطات النادرة في مختلف العلوم. تضم المكتبة كتبًا ومجلدات علمية ودينية يرجع تاريخ بعضها إلى مئات السنين.

وهذه المكتبة لا تخدم فقط الطلاب والأساتذة، بل تجذب الباحثين والعلماء من مختلف أنحاء العالم الذين يأتون للاستفادة من هذه المجموعة النادرة.

تأسست المكتبة بأمر من السلطان حسين كامل، الذي أدرك أهمية وجود مكتبة علمية داخل المعهد. أمر بشراء مجموعة كبيرة من الكتب والمخطوطات وإيداعها في المعهد، وهو ما ساهم في رفع مستوى التعليم العلمي والديني في المنطقة. على مر السنين، استمرت المكتبة في التوسع، وما زالت تحتفظ بقيمتها العلمية والثقافية حتى اليوم.

المعهد بعد حركة يوليو 1952: التطور والحداثة

شهد المعهد بعد حركة يوليو 1952 العديد من التحولات التي أثرت على دوره التعليمي والاجتماعي. رغم تغيير اسمه إلى “معهد أسيوط الأزهري للبنين”، استمرت رسالته التعليمية على نفس النهج الذي تم تأسيسه عليه.

وأصبح المعهد واحدًا من أهم المؤسسات التعليمية في صعيد مصر، حيث يُدرَّس فيه الفقه والعلوم الإسلامية الحديثة إلى جانب العلوم الأكاديمية.

الشيخ محمد شريت كان أول شيخ للمعهد بعد افتتاحه عام 1939، وتوالى على إدارته العديد من الشيوخ والعلماء، مما ساهم في تعزيز مكانته.

واليوم، يدرس في المعهد طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية، ويتلقون تعليمًا شاملًا يجمع بين العلوم الدينية والعلوم الحديثة.

رعاية علمية وفقهية شاملة لضمان تفوق طلاب الأزهر

منذ اليوم الأول من العام الدراسي، تُبذل جهود كبيرة لضمان توفير بيئة تعليمية مثالية لطلاب المعهد. يقوم الشيخ شعبان مرعي، شيخ المعهد، يرافقه علاء المصري، وكيل العلوم الثقافية، بجولات تفقدية للطلاب، للاطلاع على احتياجاتهم ومساعدتهم في تحديد مساراتهم التعليمية، سواء في القسم الأدبي أو العلمي، وأيضاً اختيار المذهب الفقهي المناسب بين الحنفي والمالكي.

وتلك الرعاية الخاصة والاهتمام بتوجيه الطلاب تساهم في نجاح العملية التعليمية وتحقق أفضل النتائج. ومع انطلاق العام الدراسي الجديد، ترفع الأيادي بالدعاء ليكون عامًا حافلًا بالتوفيق لأبناء الأزهر الشريف.

وتجمع الطلاب في هذا الصرح ليس مجرد تعليم ديني فحسب، بل هو استمرارية لتاريخ من العلم والفقه، حيث يجتمعون تحت سقف هذا المعهد الأندلسي الطابع، الذي يطل على نيل صعيد مصر العظيم، في مزيج رائع بين الحضارة الإسلامية العريقة والتاريخ المصري الممتد عبر الزمن.

أثر تاريخي وسياحي: معهد فؤاد الأول اليوم

لم يعد معهد أسيوط الأزهري مجرد مكان للتعليم الديني، بل أصبح مزارًا سياحيًا يقصده محبو الفن المعماري الإسلامي والباحثون في التاريخ.

والمبنى الضخم، بجدرانه المزخرفة ونوافذه المقوسة، يعكس روح الفن الأندلسي ويأسر كل من يراه. الزوار يأتون لرؤية النافورة الرخامية في ساحة المعهد، والحدائق المزدهرة التي تحيط بالمبنى، والمسجد الشاهق الذي يقف شاهدًا على عراقة المكان.

بالإضافة إلى دوره كمؤسسة تعليمية، يستضيف المعهد العديد من الفعاليات الثقافية والدينية، وهو ما يجعله مركزًا حيويًا للأنشطة الثقافية في أسيوط.

كما يتمتع المعهد بسمعة طيبة على مستوى مصر ككل، ويُعد نموذجًا ناجحًا يجمع بين التراث الإسلامي والتعليم الحديث.

الاحتفال بمئوية الفكرة

في عام 2015، احتفلت منطقة أسيوط الأزهرية بمرور مائة عام على فكرة إنشاء معهد فؤاد الأول، حيث حضر الاحتفال العديد من الشخصيات المهمة في الأزهر الشريف.

جاء هذا الاحتفال تأكيدًا على الدور البارز الذي لعبه المعهد في نشر التعليم الديني والعلوم الإسلامية في صعيد مصر.

اليوم، يستمر معهد أسيوط الأزهري في تقديم رسالته التعليمية، محافظًا على تاريخه العريق ومعماره الفريد.

إنه ليس مجرد مؤسسة تعليمية، بل هو رمز للتواصل بين الماضي والحاضر، وجسر بين التراث الإسلامي الأصيل والمعرفة الحديثة.

معهد فؤاد الأول .. إرث خالد

إن معهد فؤاد الأول الأزهري بأسيوط ليس مجرد بناء تاريخي أو معلم أثري، بل هو شاهد حي على تواصل الحضارة الإسلامية والعلم في قلب صعيد مصر.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى