فوضى تشريعية وبرلمان بلا رقابة: قوانين تعزز السلطة وتهمش العدالة في مصر
شهد مجلس النواب المصري منذ بداية دورته في 9 يناير 2016 حالة غير مسبوقة من النشاط التشريعي. هذا البرلمان، الذي أُطلق عليه “برلمان الطوارئ”، مرر ما يقارب من 50 ألف تشريع، لكن الأرقام الصادمة تشير إلى أن حوالي 15 ألفًا و836 منها فقط هي التشريعات التي يمكن اعتبارها ذات أهمية حقيقية.
أما البقية، فهي مجرد عبء يُثقل النظام القانوني دون أن تضيف جديدًا، بل إنها تثير تساؤلات عدة حول مدى فعاليتها وفائدتها، ومع ذلك مرّت هذه القوانين بسلاسة تامة دون أي مقاومة تُذكر.
انعقاد برلماني كثيف .. وتشريع بلا هوادة
خلال الخمس سنوات من انعقاد البرلمان المصري “2016-2021″، تم تمرير أكثر من 877 مشروع قانون، وهو رقم مخيف بالنظر إلى طبيعة وحجم التشريعات التي شملت آلاف المواد القانونية.
وهذه السرعة الهائلة في إقرار القوانين أثارت تساؤلات واسعة حول كفاءة البرلمان في مناقشة المشاريع القانونية ومدى دراسة هذه التشريعات بشكل كافٍ،
خاصة مع الاتهامات المتزايدة بأن البرلمان يعمل كأداة لتنفيذ أجندة السلطة التنفيذية دون إعطاء الفرصة للمجتمع المدني أو الرأي العام لإبداء وجهة نظره.
تشير هذه الأرقام إلى أن التشريعات كانت تُمرر دون مناقشة فعلية، وهو أمر يثير الريبة حول دور البرلمان كسلطة مستقلة.
وعلى سبيل المثال، خلال الدورة الخامسة للبرلمان، والتي امتدت لعشرة أشهر فقط، تم إقرار 233 مشروع قانون بمجموع 2490 مادة، وهو عدد ضخم بالنسبة للوقت المحدد.
وهذه الكثافة التشريعية لم تكن ناتجة عن حاجة حقيقية، بل جاءت استجابة لضغوط متزايدة من السلطة التنفيذية لتمرير قوانين تعزز من سيطرتها.
اتفاقية تيران وصنافير: تخلي عن الأرض أم تمكين للسيادة؟
في 14 يونيو 2017، أقر البرلمان المصري اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والتي تخلت فيها مصر عن جزيرتي تيران وصنافير.
وهذا القرار كان بمثابة صدمة للأوساط الشعبية والسياسية على حد سواء. كيف يمكن للبرلمان أن يوافق على اتفاقية تتعلق بتنازل عن جزء من السيادة الوطنية؟ هذا السؤال أثار احتجاجات واسعة وأشعل جدلًا كبيرًا في الشارع المصري.
لم تكن القضية مجرد مسألة قانونية، بل تمس الأمن القومي المصري بعمق. فالجزر التي تم التنازل عنها تمتلك موقعًا استراتيجيًا،
الأمر الذي جعل مناقشة القضية في البرلمان تُثير الشكوك حول مدى استقلالية النواب وقدرتهم على اتخاذ قرارات تتماشى مع المصلحة الوطنية.
التعديلات الدستورية: تعزيز للسلطة وتكميم للأصوات
في 16 أبريل 2019، أقر البرلمان المصري تعديلات دستورية تمنح الرئيس عبدالفتاح السيسي فرصة البقاء في منصبه حتى عام 2030، وتزيد من فترة الرئاسة من أربع سنوات إلى ست.
وهذه التعديلات لم تكن سوى تكريس لحكم الفرد في البلاد، ما جعل الكثير من المراقبين يرون أن مصر تتجه نحو نظام سلطوي يُعزز فيه الرئيس صلاحياته على حساب السلطة التشريعية والقضائية.
ليس هذا فحسب، بل إن التعديلات شملت مواد تُقلل من استقلالية القضاء وتوسع من صلاحيات الرئيس في تعيين رؤساء الهيئات القضائية.
وهذه الخطوة وُصفت بأنها انتكاسة للعدالة في مصر، إذ تقوض استقلال السلطة القضائية وتزيد من هيمنة السلطة التنفيذية على كافة المؤسسات.
التوسع في السيطرة القضائية: قوانين تحصين السلطة التنفيذية
في إطار سياسات تعزيز السيطرة على السلطة القضائية، أُصدر قانون في 26 يونيو 2019 منح الرئيس سلطة تعيين رؤساء الهيئات القضائية المختلفة، بما في ذلك المحكمة الدستورية العليا، ومحكمة النقض، والنائب العام.
وهذا القانون شكل ضربة قوية لاستقلال القضاء وأدى إلى تزايد الانتقادات من قبل المنظمات الحقوقية وخبراء القانون.
لقد ساهم هذا التشريع في وضع السلطة التنفيذية في موضع القاضي والحكم معًا، حيث لم يعد القضاء المصري يتمتع بالاستقلالية التي يكفلها الدستور.
وبل أصبحت هذه المؤسسات القضائية أدوات بيد السلطة التنفيذية لتمرير سياساتها دون أي عوائق قانونية أو رقابية.
قوانين الإرهاب: قمع المعارضة تحت ستار مكافحة الإرهاب
قانون “الكيانات الإرهابية والإرهابيين” الذي أقره البرلمان المصري لأول مرة في عام 2015، تم استخدامه كسلاح ضد المعارضين السياسيين.
فعلى الرغم من أنه صدر بهدف محاربة الإرهاب، إلا أنه استُغل لتصنيف جماعات سياسية وأفراد معارضين، مثل جماعة الإخوان المسلمين، كـ”كيانات إرهابية”، مما أدى إلى تقويض الحريات المدنية والحقوق الأساسية للعديد من المواطنين.
وفي أغسطس 2021، تم إصدار قانون جديد يُمكّن الحكومة من فصل الموظفين الحكوميين الذين يُعتبرون معارضين أو يُشتبه في انتمائهم إلى “كيانات إرهابية”.
وهذا التشريع لم يكن سوى وسيلة لتكميم أفواه المعارضين وإقصائهم من الساحة السياسية، وهو ما أثار جدلًا واسعًا بشأن دستورية هذا القانون ومدى تعارضه مع حقوق الإنسان.
التشريعات الاقتصادية: بيع الأصول وتبديد الثروات
لم يكن التشريع مقتصرًا على السياسة الداخلية والقضاء فقط، بل امتد ليشمل الاقتصاد. فقد مرر البرلمان عدة قوانين من شأنها أن تفتح الباب واسعًا أمام بيع الأصول الوطنية دون رقابة أو مساءلة،
من خلال قوانين مثل “الصندوق السيادي المصري” و”صندوق تحيا مصر”. هذه التشريعات سمحت للحكومة بإبرام صفقات بيع لأصول الدولة دون الحاجة لمراجعتها أو الطعن عليها قضائيًا.
أحد أخطر القوانين الاقتصادية كان قانون “تنظيم بعض إجراءات الطعن على عقود الدولة”، الذي صدر في 2014. هذا القانون منع المواطنين أو الهيئات القضائية من الطعن على العقود التي تبرمها الدولة مع الجهات الخارجية.
وهذه الخطوة شجعت على عمليات الخصخصة وبيع ممتلكات الدولة دون أن يكون هناك أي فرصة لمراجعة أو وقف هذه العمليات التي قد تكون ضارة بالمصلحة العامة.
تضاؤل دور الرقابة وتزايد الحبس الاحتياطي
من الجوانب الأكثر إثارة للقلق في تشريعات البرلمان المصري هو التوسع الكبير في صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب الهيئات الرقابية.
فلم يعد “الجهاز المركزي للمحاسبات” يتمتع بالصلاحيات التي كان يتمتع بها في السابق. بل أصبحت الكثير من المؤسسات الرقابية مجرد واجهة شكلية، بينما تجري عمليات الخصخصة والبيع وتكديس الأموال دون رقابة حقيقية.
كما أن الحبس الاحتياطي، الذي كان من المفترض أن يكون إجراءً استثنائيًا، تحول إلى وسيلة لعقاب المعارضين السياسيين.
ومئات المواطنين تم حبسهم لفترات طويلة تصل إلى 8 و10 سنوات دون محاكمة، مما جعل النظام القضائي في مصر يتعرض لانتقادات لاذعة من قبل المنظمات الدولية.
سيطرة الجيش على الاقتصاد المدني: من العاصمة إلى الغذاء
توسعت سيطرة القوات المسلحة المصرية على الحياة الاقتصادية من خلال مجموعة من القوانين التي عززت دورها في المشاريع المدنية الكبرى.
واليوم، تسيطر القوات المسلحة على مشاريع قومية ضخمة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين، بالإضافة إلى البنية التحتية للطرق والموانئ والسكك الحديدية.
أصبح الجيش يتحكم أيضًا في قطاعات أخرى مثل التعدين والاتصالات والصناعات الغذائية، مما يضع الاقتصاد المصري تحت سيطرة المؤسسات العسكرية بشكل مباشر.
وهذه السيطرة أثارت تساؤلات حول مستقبل الاقتصاد المدني في مصر، وكيفية تحقيق التنمية المستدامة في ظل هذه الهيمنة العسكرية.
تشريعات تزيد من القمع وتُضيق المستقبل
تعد التشريعات التي أقرها البرلمان المصري خلال الأعوام الأخيرة بمثابة فوضى تشريعية كارثية. بدلاً من أن تعمل على تعزيز الحريات وترسيخ العدالة، أصبحت هذه القوانين أداة لتعزيز القمع وتوسيع سيطرة السلطة التنفيذية على مفاصل الدولة.
لقد كان البرلمان، الذي من المفترض أن يكون صوت الشعب وحصنه الأخير أمام تجاوزات السلطة، أداة تمرير لسياسات تُعزز من حكم الفرد وتُكبّل الحريات وتضع الاقتصاد الوطني تحت رحمة الخصخصة والسيطرة العسكرية.
بات واضحًا أن التشريع في مصر يتحول إلى مجرد وسيلة لإحكام السيطرة وتقويض الحريات، في وقت تزداد فيه معاناة المواطنين على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وهذا النهج يُعزز من الفجوة بين السلطة والشعب، ويُضعف من فرص تحقيق التنمية الحقيقية والعدالة في المستقبل.