مصر

د.دينا عبد الرحمن تكتب: وادى الطفشان”.. ألم أقل لك إن المعرفة هى أم الخطايا؟

“إذا أقتنيت هذه الرواية – ولا أظنك فاعلا- فلا ترهق نفسك كثيرا فى فك شفرتها وفهم رمزيتها” ، فقد كافاك الكاتب هذا العناء، كما كافاك شر فهمها ومشقة فك رموزها،ويسألك فى مقدمته أن “تقرأ الرمز بعين التسلية ولا تفكر فى المرموز، فهذا أخف وطأه على عقلك وأخف حملا على نفسك”.

رواية “وادى الطفشان” هى الرواية الثالثة للكاتب “على الصاوى” الذى أخرج لنا من قبل روايتيه ” إسطنبول 2020″ و” عرايا فى إسطنبول” . آثرت أن أبدأ كما بدأ الكاتب فى مقدمته لروايته الأخيرة “وادى الطفشان” ، بداية مشوقه لرواية أكثر تشويقا فى قالب مليئ بالرمزية وفى إطار من ” الميثولوجيا” . تنتمى الرواية لنوع أدبى يُعرف بـ”الديستوبيا” dystopia والتى تعنى باللغة اليونانية “المكان الخبيث” وهي عكس المكان الفاضل الذى ُيعرف ب “اليوتوبيا” utopia . وهذا النوع من الكتابات أمتاز به الكاتب جورج أورويل عندما كتب روايته الشهيرة “1984” والتى تعد دُرة روايات الدستوبيا .وأيضا الكاتب أحمد خالد توفيق فى روايته الشهيرة “يوتوبيا” ، ولطالما تكلم الأدب عن هذا النوع من الروايات .فالمدينة الفاضلة “اليوتوبيا”عُرفت قديما بمدينة أفلاطون الفاضلة The ,Platonic Cityوكانت أول تصور للمدينة المثالية، ثم صاغ توماس مور المصطلح في القرن السادس عشر”اليوتوبيا”، أو “الطوبيا” والتى فى علم الفلسفة والتصوُّف تعني كل فكرة أو نظرية تسعى إلى المثل الأعلى ولا تتصل بالواقع أو لا يمكن تحقيقها، وتوالت التصورات الأدبية والفلسفية التي تصف “اليوتوبيا” التي يعيش فيها البشر بسلام ويتمتعون بالسعادة والرخاء.

وعلى عكس “الطوبائية” أو “الطوباوية” تأتى قصص «الديستوبيا Dystopia» – التى تتناول المستقبل. وتناقضا مع “اليوتوبيا”، تقدم “الديستوبيا” تصورًا مظلمًا جدًا سيفقد البشر فيه الكثير، حريتهم، مواردهم، مشاعرهم أو ربما على العكس، يسود الرخاء الظاهري – يوتوبيا – لكن هناك إنحطاطًا كارثيًا وإنهيارا في جانب من جوانب الحياة. وتحكمهم في الغالب حكومة شمولية أو طبقة مسيطرة تحرص على أن يكون هناك إنحدارا فكريا وحاله من الخواء تام يصاحبها محو للفردانية . “الدستوبيا” تهدف لاستشراف المستقبل، لتحذيرنا من ظواهر قائمة بالفعل قد يؤدي عدم اتخاذ موقف عملى و أخلاقي حيالها إلى إستشراسها لتلتهم عالمنا بكامله والأسوأ أن الجموع لن تشعر بهذا.

لجأ الكاتب “على الصاوى” إلى إستخدام نماذج أسطورية رمزية غنية يتردد صداها لدى القراء عبر الثقافات والفترات الزمنية المختلفة. فمقصد الرواية يسرى على كل زمان ومكان قد تغيب فيه الحريات ويمجد فيه الحكام،وتلجم فيه الألسن وتُصادر فيه الأفكار. يحيك الكاتب روايته بنسيج من الصور، قرية “أم الخلود” ذات الرغد والأنعم تتمتع بوفرة الخيرات ،قرية عظيمة لها تاريخ أسطورى قديم ، تقع فى نطاق جغرافى تحيط به خيرات شتى فهى تتميز بإرث أسطورى كبير أعطاها طابعا حضاريا فريدا وتعد نواة التاريخ ونقطة إنطلاقه لعراقتها وعظمة مدائنها وآثارها العتيقة وتقاليد أهلها وأعرافهم . القرية التى تستيقظ كل فجر على تراتيل إلهية وتناجيم أسطورية تتغنى بملحمة سيد الآلهة. متوازيا مع قرية “أم الخلود” يقدم لنا الكاتب “وادى الطفشان” وهو إسم يحمل كثيرا من الرمزية …وهذه إحدى ظواهر الرواية فهى شديدة الرمزية لدرجة قد تصل ببعض من التأمل إلى إيضاح الرمز مما يجعلها أكثر تشويقا وإمتاعا للقارئ الواعى المثقف. ففى “وادى الطفشان” عالما موازيا ملئ بالأحداث ويحمل فى تفاصيله صراعا ناعما بين قوتين ناعمتين مرؤستان بإلهين قديمين ” إله يدعى حاتوم وآخر يدعى ماتوم” وهما يرمزان إلى الحياة والموت، وما بينهما من صراعا سرمديا حتى يوم البعث.

يبدأ الكاتب فى تقديم عدة شخصيات بأسماء أسطورية ويوظف كلا فى موضعه، فهذا هو الكاهن “أخسيس” ، شخصية شديدة المكر والدهاء يظهر فى صورة روحية ملهمة تبعث الراحة والإطمئنان فى قلوب أتباعه للإقبال عليه وكسب ثقته ، كثير الصمت قليل الظهور لكن أثر موءامرته فى كل ركن من أركان الوادى. شخصية “الرجل الحكيم” الذى يُجرى الكاتب على لسانه النبؤة”لا قرون بعد اليوم” ، والحاكم “أبوسين” الذى يحكم قبضته على أهل القرية يخشاه كهنته ووزراؤه ويهابونه ولا ينبسون أمامه بكلمه.شخصية “سرقسط” الحاكم السابق الذى تمرد عليه أهل قريته. وشخصية الكاهن ” خافيروس” كاهن معبد القرية ، الذى يبارك سيد الآلهة، و”نورزيف” كبير الوزراء والذى يمثل أحد أطراف الصراع، شخصية الكاهن “بناليس” كاهن معبد الآله حاتوم أحد طرفى الصراع الرئيسيين والذى تدار على يديه الأحكام والخطط والمكائد، شخصية “قطبين الأقرع” وهو طرف آخر من أطراف الصراع. شخصية الفيلسوف “آسفين” ذو الفطرة النقية الذى يحمل على عاتقه هموم الوصول إلى الحقيقة ، اختار” الغربة المعنوية” بإرادته لأنه عندما تأمل أمر الوادى الذى إمتزج خيره بشره كانت العبارة التى تجرى على لسانه “هؤلاء قوم ليس لى فى زحامهم مكان” هذه العباره التى يعتنقها دوما كلما إزداد تأملا وفهما للمشهد.والشخصية النسائية الوحيدة فى الرواية “أليتا” التى رمزت إلى فلسفة الحب والجمال والغواية فى آن واحد.

تبلغ الرواية ذروتها الفكرية عند مواجهه الفيلسوف “آسفين” فى سوق الفلاسفة مع “قطبين الأقرع” التى تسببت بدورها فى حراك عقلى ليس مرغوبا أن ينتشر بين أهل الوادى .
ألم أقل لك أن المعرفة هى أم الخطايا؟
عبارة جرت على لسان الكاهن “أخسيس” تحمل الهدف الذى تُحاول أغلب النظم الحاكمة دائما تطبيقه على شعوبهم لتأمين حكمهم من جحيم المعرفة. المكان الثالث الذى استلهم به الكاتب لطرح فكره هو “جزيره التيه” وهنا تجدر الإشارة إلى الرمزية الموظفة جيدا من قبل الكاتب فى إختيار “التيه” وهوحاله عقابيه إختارها الرب منذ بدء الخليقه متمثلة فى قوله تعالى: ( قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) المائدة 26.

برع الكاتب فى رسم حركة الصراع الأزلى بين الأطراف المتضادة وكلا منهما يستميت فى إستماله وإستقطاب أطراف الصراع فى الوادى لاجئين فى تحقيق ذلك إلى كل السبل الممكنه سواء كانت مشروعة أو غير ذلك فالغايه هنا دائما تبررها الوسيلة.
التأمل فى فلسفة الكاتب فى إختيار الأسماء بدءا من إسم العمل “وادى الطفشان” وإنتهاءا بكل شخصية فى العمل تفرض نفسها بطبيعه الحال على كل من يقرأها. فهو إختيارا يشير إلى أننا أمام كاتبا محنكا واعيا لديه من الكفاءة اللغوية والأسلوبية ما يمكنه من إيصال مُبتغاه للقارئ فى قالب سردى محكم مشوق يستثير فكرالقارئ وعقله.

د. دينا عبد الرحمن الدوى
ماجستير الأدب الإنجليزى
دكتوراة فى دراسات الترجمة

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى