مقالات ورأى

وليد عبد الحي يكتب : اسرائيل ومأزقها الاستراتيجي


عند استعراض اشكال التسوية التي تم عرضها للقضية الفلسطينية منذ اتفاقيات الهدنة عام 1949، نجد أن المشروعات الكبرى لهذه التسوية متعددة، وساعرض بايجاز شديد هذه الحلول وموقف اسرائيل من كل مشروع لتبيان مأزقها الاستراتيجي :


اولا: حل الدولتين :اي قيام دولة فلسطينية في اراضي 1967 الى جانب الاعتراف باسرائيل..وهو مشروع رفضته اسرائيل واكثر الرافضين له نيتنياهو تحديدا..الاسباب :


أ‌- الدولة الفلسطينية تجعل العمق الاستراتيجي لاسرائيل في بعض المناطق ضيقا جدا، فاالمسافة بين مدينة طولكرم(في الدولة الفلسطينية المقترحة) والبحر الابيض هي اقل من 15 كيلومتر ، وهي مسافة تقطعها الدبابات الحديثة في اقل من 12 دقيقة..


ب‌- ان اقامة دولة فلسطينية يبقي النقيض التاريخي لاسرائيل قائما ويضمن ديمومة الصراع
ت‌- تدل التجربة التاريخية لكل اشكال الاستعمار التي خضع لها العرب ان العرب إذا استشعروا القوة في اي لحظة فانهم يعودون للصراع ،مما يجعل الدولة الفلسطينية المقترحة نقطة ارتكاز لهم مستقبلا لتوظيفه بمجرد اختلال موازين القوى لصالحهم ولو نسبيا.


ث‌- ان اقامة دولة فلسطينية يعني امكانية التحاق اللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار بهذه الدولة مما يزيد عدد سكانها بشكل خطير في المنظور الاسرائيلي.


ج‌- ان القبول بهذا الحل من اسرائيل يعني احتمال انفجار اهلية بين الدولة اليهودية ومستوطنيها الذين يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية، وعددهم يقارب عدد سكان اسرائيل عند اقامتها ، فهم اسرائيل ثانية،واغلبهم من تيار اليمين المتطرف الذي سيقاوم اي محاولة لاخلائه لفسح المجال للدولة الفلسطينية المقترحة.


ثانيا: حل الدولة الواحدة: ولهذا الحل وجهان،

احدهما ابقاء المواطن الفلسطيني مواطنا من الدرجة الثانية بخاصة في جانب الحقوق السياسية ، والوجه الآخر اعتبار الفلسطيني مواطنا بكامل حقوق المواطنه..وهذان الوجهان ترفضهما اسرائيل للاسباب التالية:


أ‌- ان منع الفلسطيني من ان يتمتع بحقوق المواطنة التامة سيبقي اسرائيل في حالة عدم استقرار دائم على غرار نموذج جنوب افريقيا ،وهو ما يجعل نموذج جنوب افريقيا يتكرر في اسرائيل.


ب‌- ان نسبة الزيادة السكانية بين الفلسطينيين في هذه الدولة الواحدة تفوق بشكل واضح نسبة الزيادة بين اليهود(2.3 % بين العرب مقابل 1.9% لليهود)، فإذا كان عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية حاليا (اراضي 1948+الضفة الغربية+ قطاع غزة) هو 7.4 مليون نسمة مقابل 7.2 مليون يهودي،

فإن الفارق في الزيادة السكانية سيتسع لصالح الفلسطينيين وبشكل ومتسارع، وهو ما يعزز نموذج جنوب افريقيا (اقلية تحكم اغلبية).
ت‌- ان منح الفلسطيني الحقوق كاملة،

سيؤدي بحكم التزايد السكاني ان يكون برلمان الدولة الواحدة اغلبه من الفلسطينيين واحزابهم ، بل قد يكون رئيس الوزراء من بينهم ، وهنا تفقد اسرائيل هويتها.
ثالثا: دولة واحدة بحكم ذاتي للفلسطينيين: اي منح الضفة الغربية وغزة ادارة ذاتية على طريقة الفيدراليات ، وهنا ترفض اسرائيل هذا الحل للاسباب التالية:
أ‌- في عام 1920 كان في العالم خمسين دولة مستقلة ، ومع موجات التحرر قارب العدد الآن على حوالي 200 كيان سياسي مستقل ، من بينها هناك حاليا 121 اقليما ذاتي الحكم في 40 دولة ،

ويكفي النظر في نماذج مثل اقاليم كاتالونيا او كردستان او اسكتلندا او ابخازيا وجنوب اوسيتيا او أمبازونيا أو كشمير ..الخ، بل ان اوروبا حاليا تعرف 17 حركة انفصالية (بدرجات مختلفة من النزعة الانفصالية)، وهو ما يعني ان الاقليات (والفلسطينيون ليسوا اقلية)

سيعودون لالغاء الحكم الذاتي باتجاه الدولة المستقلة وهو ما يعيدنا للمشهد الاول.


ب‌- ان وجود حوالي 2.1 مليون فلسطيني داخل ” اسرائيل” (فلسطيني 1948) سيصبحون كتلة سكانية كبيرة مستقبلا وسيطالبون الالتحاق باقليم الحكم الذاتي في الضفة والقطاع ، وقد يتبعهم بدو النقب ( عددهم حاليا 370 الف منهم 317 في النقب).


رابعا: التهجير: ولعل هذا هو الحل النموذجي من وجهة نظر اسرائيل بخاصة اليمين الحاكم حاليا، فهو يخلص اسرائيل من اوزار كل الحلول السابقة ، لكن هذا الحل –طبقا لبعض النخب الاسرائيلية- يثير اشكالات تجعل من الصعب تطبيقه رغم غوايته النظرية


أ‌- يمكن ان يتم التهجير الخشن بالطرد والاعمال العسكرية كما حاول الجيش الاسرائيلي فعله في قطاع غزة بعد طوفان الاقصى، لكن رغبة الحكم المصري في عدم الانغماس ثانية في القضية الفلسطينية عرقل التوجه الاسرائيلي، كما ان صحراء سيناء ليست منطقة جاذبة.


ب‌- التهجير نحو لبنان أمر يثير حفيظة الكتلة المسيحية التي ترى ان ذلك سيعمق الخلل الديموغرافي لصالح المسلمين ، ناهيك عن انه سيحمل عبئا اقتصاديا على المدى الطويل، فقد يتم تقديم مساعدات في البداية لكن نقل 2-3 مليون فلسطيني الى لبنان سيعزز احتمال تعزيز المقاومة الفلسيطينة المتواجدة في لبنان ،

وينطوي ذلك على مخاطر لاحقة إذا تغيرت بعض ملامح الشرق الاوسط بخاصة مع تنامي الحركات الدينية المسلحة .
ت‌- التهجير نحو الاردن كما ألمحت بعض خرائط نيتنياهو وحاشيته ، لكن عدد سكان الضفة الغربية مضافا لها غزة

(اي ما مجموعه اكثر من 5 مليون نسمة حاليا )

يشكل امرا في غاية الصعوبة من الناحية التنفيذية، ناهيك عن رفض اغلب القوى السياسية الاردنية لهذا الحل ، الى جانب أن الحل لم يعد مستساغا في المنظور الدولي ، بخاصة ان الوضع الاقتصادي في الاردن أوهن من تحمل هكذا عبء مهما كانت المساعدات.


ث‌- ان تفتح دول العالم ابوابها بالغواية للفلسطينيين للهجرة لها، وهذه الهجرة الطوعية ستستغرق سنين طوال ، فنقل الافارقة( ( Transatlantic Slave tradeالى الولايات المتحدة استغرق قرابة ثلاثة قرون لنقل حوالي 12 مليون،

اما الهجرة الطوعية فان استطلاعات الراي العام الفلسطيني تشير الى ان اقل من 6% من يوافق على الذهاب لغير فلسطين ، ولعل تشبث اللاجئين الفلسطينيين بمخيماتهم بخاصة في دول الجوار رغم فرص الخروج المتاحة دليل يعزز هذا الاستنتاج.
ماذا يعني ذلك:
ان المعنى الوحيد لكل ما سبق هو ان اسرائيل لا تمتلك حلا لمشكلتها، وان وجودها لا يستطيع الاستمرار إلا بالقوة، وهو ما سيبقي دورات الصراع مستمرة( كما جرى مع ثورات القسام وعبد القادر الحسيني) ثم مع الحقبة الناصرية،

ثم مرة اخرى مع التنظيمات الفلسطينية منذ معركة الكرامة ثم حرب 1973 ثم الحروب مع لبنان ومع العراق ومع اليمن ،

وفي كل مرة لا افق لكل الحلول السابقة، ناهيك عن ان نجاح العرب تاريخيا في طرد الرومان والفرس والصليبيين والاتراك والاستعمار البريطاني والفرنسي والاسباني يشكل كابوسا في اللاوعي الصهيوني،

فايران الشاه كانت الحليف الاول والاقوى لاسرائيل في المنطقة، والآن لا يمل نيتنياهو من التحريض عليها ..انها منطقة مضطربة لدرجة عميقة ، ولن تستقر طالما سبب عدم الاستقرار قائم ولا يملك حلولا مرضية له ولا لغيره ..

وكل هذا يدل على ان اسرائيل تعيش مأزقا استراتيجيا لأنها لا تملك حلا لمشكلتها، فما أن ” تنتصر” في معركة حتى تبدأ الاستعداد للمعركة القادمة، فمنذ 76 سنة من عمرها وهي “تحارب”..فهل هذا هو الحلم الصهيوني،

انها نموذج اسبارطي في قدر من ملامحه ويتغذى على صور ذهنية تاريخية قاتمة قابعة في اللا عي والوعي لدى طرفي الصراع العربي الصهيوني


وما يجري مع محور المقاومة خير دليل على ان اعراس كامب ديفيد واوسلو ووادي عربة والمحور الابراهيمي وكهوف التطبيع السري لم توصلنا إلا لمزيد من الاضرار التي فاقت اضرار الحروب ..وإلا لماذا نحن العرب الاكثر استدانة والاكثر استبدادا والاكثر عدم استقرار والاكثر تخلفا علميا؟…اجيبوني ان كنتم تعلمون. .. وانتظروا جولات الصراع القادمة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى