أطفال قنا على حافة الموت يوميًا لعبور الترعة إلى المدرسة
شهدت قرية نجع محروص الواقعة في مركز قوص بمحافظة قنا، حادثة أثارت الغضب والقلق في أوساط الأهالي ورواد مواقع التواصل الاجتماعي على حد سواء.
والصور التي انتشرت عبر فيسبوك كشفت عن مشهد مروع تلاميذ صغار يخاطرون بحياتهم يوميًا لعبور ترعة ري على جذع نخلة قديم، فقط للوصول إلى مدرستهم.
وهذا المشهد يعبر عن واقع مرير يتكرر في أنحاء مصر حيث يواجه الأطفال ظروفًا قاسية للوصول إلى حقهم الأساسي في التعليم.
ولكن، هل يمكن أن يتحمل طفل في التاسعة أو العاشرة من عمره هذا الخطر اليومي؟ وكيف تفسر السلطات المحلية هذا المشهد الذي يثير الرعب في نفوس الأهالي والمواطنين؟
وفي هذا السياق موقع “أخبار الغد” يلقي الضوء على هذه القضية الشائكة، ويطرح آراء المسؤولين والمختصين والمواطنين الذين يعيشون في قلب هذه الأزمة.
أولياء الأمور في صرخة يأس: “أطفالنا في خطر! من ينقذهم؟”
ألتقينا مع أولياء أمور هؤلاء الأطفال الذين يعيشون هذا الخطر يوميًا، وفي حديث خاص مع “محمد عبداللطيف”، والد تلميذ في مدرسة نجع محروص الابتدائية، قال بنبرة ممتزجة بالغضب والخوف: “كل يوم وأنا في قلق شديد على ولدي.
وهل يعقل أن يجازف طفل بحياته للذهاب إلى المدرسة؟ الترعة عميقة والجذع غير مستقر. إذا انزلق طفل، لن يكون هناك من ينقذه”.
وأضاف: “نحن لا نطلب شيئًا كبيرًا، فقط جسر صغير يربطنا بالمدرسة. لكن للأسف، لا أحد يهتم. حياتنا جميعًا أصبحت في خطر بسبب إهمال المسؤولين”.
موقف السلطات: “هناك جسر قريب، لكن البعض يريد جسرًا أمام منزله”
وتحدث “ياسر حمادي”، رئيس الوحدة المحلية لمركز ومدينة قوص، الذي أبدى استياءه من إثارة الموضوع بهذا الشكل.
وأكد أن هناك جسرًا على بعد 400 متر من موقع جذع النخلة الذي يستخدمه التلاميذ، قائلًا: “التلاميذ يعبرون بطريقة خاطئة وهذا يزيد من الخطر.
والجسر القريب آمن ويجب أن يسلكوا الطريق الصحيح، لكن بعض الأهالي يفضلون اختصار المسافة على حساب سلامة أبنائهم”.
وعندما سألناه عن سبب عدم بناء جسر آخر بالقرب من المدرسة، رد حمادي قائلًا: “ليس من المنطقي أن نبني جسرًا أمام كل بيت. لدينا موازنات محددة وأولويات.
وإزالة جذع النخلة ستكون أول خطوة لحل هذه المشكلة، وسنحرص على توجيه الأهالي إلى استخدام الجسر المتاح”.
أزمة بين الحلول الواقعية ومتطلبات الأهالي: “هل حقًا 400 متر أكثر أمانًا؟”
“محمود إبراهيم”، أحد أولياء الأمور المتواجدين في القرية، يرى أن حديث رئيس الوحدة المحلية غير واقعي. يقول: “نعم، الجسر يبعد 400 متر، ولكن من الذي سيضمن لنا أن التلاميذ سيقطعون هذه المسافة يوميًا؟
نحن نتحدث عن أطفال صغار، الطريق طويل ومملوء بالحفر والمخاطر. استخدام جذع النخلة هو الحل الأسرع بالنسبة لهم، ولكن للأسف الأكثر خطورة”.
“فاطمة حسين”، والدة أحد التلاميذ أيضًا، أضافت: “حتى لو كنا نرغب في سلامة أبنائنا، فإن المسافة الطويلة تضع الأطفال في مواجهة مخاطر أخرى.
فالطريق غير ممهد تمامًا وهناك كلاب ضالة وأيضًا عدد من المخاطر الأخرى. نحتاج إلى جسر قريب وآمن بدلاً من تحميل الأطفال مسؤولية تعريض حياتهم للخطر”.
هل تكفي الحلول المؤقتة؟
توجهنا إلى عدد من الخبراء في مجال التعليم والسلامة العامة لمعرفة آرائهم حول هذه الأزمة. الدكتور “إبراهيم محمود”، أستاذ جامعي في التخطيط العمراني، أوضح أن بناء جسور قريبة من المدارس ليس رفاهية، بل ضرورة.
ويقول: “في المناطق الريفية، مثل نجع محروص، يجب أن يكون التخطيط الجيد للبنية التحتية من الأولويات. عندما نتحدث عن مدرسة، يجب أن تكون سلامة الوصول إليها هي أول ما نفكر فيه. الأطفال لا يدركون خطورة الموقف مثلما يفهمه الكبار، وبالتالي، يجب أن نوفر لهم وسائل عبور آمنة”.
وأضاف: “التأخير في بناء جسر أو توجيه الطلاب لاستخدام جسر بعيد يعرض حياتهم لمزيد من الخطر. يجب على السلطات المحلية أن تعمل على توفير حلول دائمة وليست مؤقتة. إزالة جذع النخلة ليس الحل، بل يجب أن نبحث عن بدائل آمنة وسريعة”.
تلك ليست قضية بسيطة .. إنها أزمة وطنية
المحامي “أحمد عاطف”، الذي يتابع القضية بشكل مكثف عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أكد أن هذه المشكلة ليست مقتصرة على قرية نجع محروص فقط. يقول: “في الحقيقة، ما نشهده في قنا يحدث في العديد من القرى المصرية.
والإهمال في توفير البنية التحتية اللازمة هو جريمة بحق المواطنين، خصوصًا الأطفال. هناك مسؤولية قانونية على الدولة لضمان سلامة الأطفال أثناء ذهابهم وإيابهم من المدرسة”.
وأشار عاطف إلى أن هذه الحوادث تتكرر في العديد من المناطق النائية، حيث يضطر الأطفال إلى المخاطرة بحياتهم للوصول إلى التعليم.
“نحن بحاجة إلى خطة قومية شاملة لتحسين البنية التحتية في الريف المصري. ما نراه اليوم في قنا يجب أن يكون دعوة للعمل العاجل، وليس مجرد حادثة معزولة”.
رأي المختصين في علم الاجتماع: “الأمر ليس مجرد بنية تحتية”
من جانبه، أوضح الدكتور “عبد الرحمن السيد”، أستاذ جامعي في علم الاجتماع، أن هذه الحادثة تعكس مشكلات أعمق في المجتمع المصري.
ويقول: “هذه ليست مجرد مسألة بنية تحتية متهالكة. الأمر يرتبط أيضًا بغياب الاهتمام الكافي بالمناطق الريفية واحتياجاتها الأساسية. الأطفال هنا هم ضحايا لتراكمات طويلة من الإهمال الذي لم يتم معالجته”.
وأضاف الدكتور السيد: “إذا أردنا حقًا حل هذه الأزمة، يجب أن نبدأ من الجذور. نحتاج إلى مراجعة سياساتنا تجاه التعليم في المناطق الريفية والتأكد من أن الأطفال هناك يحصلون على نفس الحقوق التي يحصل عليها أطفال المدن. الفجوة بين الريف والحضر في مصر لا تتعلق فقط بالتعليم، بل بالفرص والإمكانات بشكل عام”.
أزمة تتطلب تحركًا عاجلًا
بين رفض الأهالي لحلول السلطات المحلية، ورفض السلطات لمطالبهم ببناء جسر قريب، تبقى حياة أطفال نجع محروص في خطر يومي.
والصراع بين الضرورة المالية والأولوية الإنسانية لا ينبغي أن يكون على حساب أرواح الأطفال. نحن أمام أزمة ليست مجرد أزمة بنية تحتية، بل هي أزمة إنسانية من الدرجة الأولى.
تظل قضية التلاميذ الذين يخاطرون بحياتهم يوميًا عبورًا على جذع نخلة تذكيرًا صارخًا بالإهمال الذي تعاني منه القرى الريفية في مصر.
ما يحدث في نجع محروص هو نموذج مصغر لما يمكن أن نطلق عليه أزمة “المستقبل الضائع”، حيث تتسبب هذه الظروف القاسية في وضع الأطفال تحت تهديد دائم، يعطل دراستهم ويهدد حياتهم.
على السلطات التحرك الفوري لتوفير حلول سريعة ودائمة، وعلى المواطنين عدم التنازل عن حقوق أبنائهم في الوصول الآمن إلى التعليم.