مصر، بلد الحضارة والتاريخ، تقف اليوم أمام مفترق طرق لا يُحسد عليه. فما كان يُفترض أن يكون نظامًا قانونيًا يحمي حقوق المواطنين ويعزز رفاههم الاجتماعي والاقتصادي، تحول إلى شبح يقضي على آمال المصريين في حياة كريمة.
وترسانة القوانين التي تُسن تحت قبة البرلمان تتهاوى واحدة تلو الأخرى على رؤوس الناس، لتزيد من أعبائهم وتدفعهم إلى حافة الانفجار الشعبي.
لنبدأ بقانون القيمة المضافة، تلك الضريبة التي جاءت كالخنجر في خاصرة الطبقات المتوسطة والمحدودة الدخل.
والحكومة تتحدث عن “إصلاح اقتصادي” وعن ضرورة “ترشيد الإنفاق العام”، لكن ما يجري في الواقع هو سلب حقوق الفقراء لصالح شركات دولية ومستثمرين أجانب.
والأسعار ترتفع بشكل جنوني، والمواطن يجد نفسه محاصرًا بين نيران التضخم وجشع التجار. والأدهى من ذلك، هذه القوانين تُمرر دون أي حوار مجتمعي حقيقي، دون أن يتم الاستماع إلى الأصوات المتضررة. إنها عملية إقصاء متعمدة، تهدف إلى كتم أي صوت يعارض هذه السياسات الجائرة.
ثم يأتي قانون نظام التأمين الاجتماعي، الذي يُفترض أن يكون ضمانًا لمستقبل المواطن، ولكنه في الحقيقة يشبه فخًا نصبه من لا يعنيهم إلا مصالحهم الخاصة.
كيف يعقل أن يكون التأمين الذي يُفترض أنه يحمي كرامة الفرد، مصيدةً لزيادة الأعباء المالية على الموظف البسيط؟! إنه انقلاب واضح على حقوق العمال والموظفين، وفي الوقت الذي يفرغ فيه صندوق التأمينات من موارده، يُضخ المال في مشاريع لا تعود بالنفع على المواطن.
ولا ننسى قانون الخدمة المدنية الذي يتحدث عن “إصلاح إداري”، لكنه في الحقيقة مشروع يُضاف إلى قائمة طويلة من التشريعات التي تهدف إلى تقليص حقوق العاملين في الدولة، وإضعاف دور النقابات العمالية.
وهذا القانون يُفرّغ الوظيفة العامة من مضمونها، ويحوّل الموظفين إلى مجرد أدوات تُستغل لتحقيق أهداف حكومية، دون أن يكون لهم أي حماية حقيقية.
أما عن قانون الإيجارات القديمة، فهو جرح نازف في قلب المجتمع المصري. الحكومة تريد تحرير العقارات تحت ذريعة “العدالة”، لكن أين العدالة في تشريد ملايين الأسر التي لا تستطيع تحمل أعباء الإيجار الجديد؟!
وهذا القانون لا يراعي إلا مصالح المستثمرين العقاريين وأصحاب الأموال، بينما يُترك المواطن الفقير ليواجه مصيره وحده. إنه تدمير ممنهج لحق السكن، وجريمة مكتملة الأركان ضد الشعب المصري.
والحديث عن بيع الأصول الوطنية وصندوق تحيا مصر وصندوق مصر السيادي، يأخذنا إلى مستوى جديد من الكارثة.
وهذه التشريعات تُفصّل على مقاس الرأسمالية العالمية، وتفتح أبواب البلاد أمام الشركات الأجنبية لتستولي على مقدرات الدولة. إنها عملية نهب منظم، يتم تمريرها تحت غطاء “الإصلاح الاقتصادي”.
ولكن ما يجري هو تفكيك للاقتصاد المصري، وتحويله إلى مجرّد سوق مفتوحة لتلك القوى التي لا تهتم بشيء سوى الربح السريع.
ثم تأتي القروض الدولية، تلك الكارثة التي أغرقت البلاد في ديون لا تنتهي. كل اتفاقية قرض جديدة هي مسمار في نعش الاقتصاد المصري.
وهذه القروض تُستخدم كأداة لفرض سياسات تقشفية تزيد من معاناة الشعب، في حين يستفيد منها قلة قليلة من النخبة السياسية والاقتصادية.
وإنها اتفاقيات يتم تمريرها دون أي حوار مجتمعي، ودون أي اعتبار لحقوق الأجيال القادمة التي ستتحمل عبء سداد هذه الديون.
مصر اليوم تقف على حافة ثورة شعبية حقيقية. هذا التراكم الهائل من القوانين الجائرة، الذي يتم سنه دون أي مراعاة لمصلحة المواطن، لا يمكن أن يمر مرور الكرام.
والشعب المصري لن يقبل بأن يتم تحجيمه وسلب حقوقه بهذه الصورة. القوانين التي من المفترض أن تحميه وتخدمه، أصبحت أدوات لقمعه واستنزافه.
هذه التشريعات، التي تفوق عددها ما هو موجود في العديد من دول أوروبا، تجعل من مصر واحدة من أسوأ الدول في احترام القانون.
وتصنيفنا في المرتبة الرابعة بين 113 دولة في عدم احترام القانون ليس مجرد رقم في تقرير دولي. إنه انعكاس حقيقي لحالة الفوضى القانونية التي تعيشها البلاد.
ولا تقتصر الكوارث على بطء التقاضي أو عدم تحقيق العدالة الناجزة، بل تمتد إلى كل نواحي الحياة اليومية للمصريين، من التعليم إلى الصحة إلى العمل إلى السكن.
ما يحدث اليوم هو جريمة في حق الشعب المصري. إنها عملية اغتيال بطيء للأمل، واستنزاف مستمر لثروات البلاد تحت غطاء “الإصلاح”. وإذا لم يتحرك الشعب لوقف هذا النزيف، فإن المستقبل سيكون أكثر ظلمة وكآبة.