الخلط بين المال السياسي والمال الأسود ليس مجرد خلط بريء أو ساذج، بل هو خلط متعمد ومقصود من قبل أولئك الذين يسعون لتشويه الفهم الجماعي حول القيم الديمقراطية والشفافية.
والمال السياسي، مهما كان جدلياً في سياق النقاشات حوله، يمكن النظر إليه كأداة مشروعة لدعم الحملات الانتخابية، ولكنه محكوم بقوانين وضوابط تفرضها الهيئة المستقلة للانتخاب لضمان نزاهة العملية الانتخابية.
بالمقابل، المال الأسود هو السرطان الذي ينخر جسد الديمقراطية. هو عدو الشفافية، وعدو النزاهة، وعدو الإرادة الحرة للناخبين.
ما يدفعني إلى تناول هذا الموضوع بحزم هو أن الأثر التدميري للمال الأسود لا يقف فقط عند حدود التلاعب بنتائج الانتخابات، بل يتجاوز ذلك ليضرب في صميم المجتمع، يُضعف النسيج الاجتماعي، ويُحول المواطنين إلى مجرد سلعة في مزاد الأصوات.
والمال الأسود ليس مجرد رشوة انتخابية؛ إنه رمز لكل ما هو فاسد وخبيث في السياسة. هو خيانة للوطن وللمواطنة.
الأخطر من ذلك هو الاستغلال المنهجي للمنابر التي يفترض أن تكون صوتًا للحق، كالمنابر الدينية والثقافية والإعلامية، التي يتم استغلالها بشكل مخزٍ للترويج لهذا النوع من الفساد.
هل يُعقل أن يصبح المسجد أو القناة التلفزيونية وسيلة لشراء الضمائر؟ كيف يمكن لهذه المنابر أن تتحول إلى أداة تدمير للعدالة الاجتماعية؟
ومن هنا، لا بد من التساؤل: أين دور الدولة وأين دور المواطن؟ عندما يتحول المال الأسود إلى وسيلة لتحديد مستقبل الأمة، فإن مسؤولية الحكومة لا تتوقف عند مجرد سن القوانين، بل تتطلب تحركًا فوريًا وحازمًا للقضاء على هذه الظاهرة من جذورها.
ولعل من الواجب أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها من خلال إجراءات قانونية صارمة ورقابة دقيقة على الحملات الانتخابية، وأيضًا من خلال تحويل المتورطين إلى القضاء ليكونوا عبرة لغيرهم. فالحديث عن الشفافية والنزاهة لا يكفي؛ المطلوب هو أفعال على الأرض.
لكن، دعونا لا ننسى دور المواطن. من يبيع صوته لا يبيع فقط ضميره، بل يبيع وطنه بأسره. كيف يمكن لمجتمع أن يتقدم إذا كان أفراده مستعدين لبيع حقهم في اختيار ممثليهم مقابل حفنة من النقود؟ تلك الحفنة التي تلوث كل شيء، وتحط من قدر المواطن، وتحول النظام الانتخابي إلى مسرحية عبثية.
المال الأسود ليس مجرد مشكلة انتخابية. إنه مرض متفشٍ يحتاج إلى علاج جذري. ولا يكفي أن نكتفي بالكلام أو التنديد.
والمطلوب هو كبح جماح مروجي المال الأسود بشتى الطرق الممكنة، عبر وضع حدٍ لاستخدام هذه الأموال في تشكيل نتائج الانتخابات. يتطلب ذلك جهداً مشتركاً من الحكومة والمجتمع على حد سواء.
بصراحة تامة، ما أود قوله هو أن المال الأسود يشكل العدو الأول للوطن، وليس فقط في سياق الانتخابات. إنه رمز لكل أنواع الفساد التي نراها اليوم، إنه خنجر في قلب العدالة.
وعندما نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا العدو، فإننا نسمح له بأن يتوغل أكثر في مفاصل الدولة، وأن يدمر كل ما حققناه من إنجازات وإصلاحات على مر السنين.
المطلوب ليس فقط محاربة المال الأسود في الانتخابات، بل المطلوب هو تجديد ثقافة المواطنة، إعادة بناء منظومة القيم التي تجعل من الشفافية والنزاهة والعزة الوطنية أسسًا لا يمكن التنازل عنها.