عربي ودولى

رحيل حسن نصر الله عن 64 عاماً: نهاية حقبة في المشهد السياسي اللبناني

“قيادة الحزب تعاهد السيد الشهيد حسن نصر الله أن تواصل جهادها في مواجهة العدو وإسنادا لغزة وفلسطين ودفاعا عن لبنان وشعبه الصامد والشريف”. كلمات مشحونة بالعاطفة الجياشة، وبأصوات الرجال الصابرين حملة البنادق في نعي رجل أطلق عليه لقب “سيد المقاومة”.

لديه معجبون كثر بمقدار ما له من أعداء وخصوم في لبنان والوطن العربي.

لم يظهر علنا إلا قليلا، لكن اختفاءه لم يمنع جمهوره من الاستماع إلى خطبه بشكل شبه أسبوعي، وفي الأحداث الكبرى.

رحل في عمر 64 عاما، بعد أن كان يعتبر قائدا سياسيا وعسكريا في لبنان، رغم الانقسام حول مكانته، ودوره، ورفض خصومه السياسيين لسطوته على الساحة اللبنانية.

حسن نصر الله، المولود عام 1960 في بلدة “البازورية” الجنوبية القريبة من مدينة صور، اختبر قسوة الحياة في مرحلة مبكرة من حياته الشخصية، فقد اضطرته الظروف، وهو صغير وبسبب ضيق حال العائلة وانعدام فرص العمل في بلدته للنزوح مع عائلته إلى بيروت، وهناك أقامت العائلة في منطقة “الكرنتينا” في أطراف العاصمة، فساعد في أولى أيام حياته والده في بيع الخضار والفاكهة.

وعندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية رجع مع عائلته إلى بلدته وهناك تابع دراسته الثانوية، والتحق بصفوف حركة “أمل” التي أسسها موسى الصدر، وكان خياره يبدو بعيدا حينها عن توجهات البلدة السياسية التي كانت تأخذ الطابع الشيوعي والماركسي، وذلك لكثرة الشيوعيين الموجودين فيها إبان ذلك الوقت، ثم أصبح مندوب الحركة في بلدته.

وفي مدينة صور تعرف على محمد الغروي الذي كان يدرس العلوم الإسلامية في أحد مساجد المدينة باسم الصدر، الذي ساعده على الذهاب إلى مدينة النجف في العراق، والتي تتلمذ فيها كبار علماء الدين الشيعة، وحمله الغروي كتاب توصية لمحمد باقر الصدر أحد أهم رجال الدين الشيعة، وبوصوله إلى النجف تعرف على عباس الموسوي.

 لقاء نصر الله بالموسوي كان مرحلة محورية في حياته، فمنذ اللحظة نشأت صداقة قوية ومتينة بين الرجلين الذين كتبا فصلا هاما من تاريخ المنطقة عبر تأسيس “حزب الله” عام 1982.

بعد لقائه بالصدر، طلب الأخير من الموسوي رعاية نصر الله، وعهد له بتدريسه، وكان الموسوي صارما في دوره كمعلم، مما أمّن لنصر الله الفرصة بإنهاء علومه الدينية في فترة سريعة نسبيا، حيث أنهى المرحلة الأولى عام 1978.

بعد أن عاد نصر الله إلى لبنان التحق بالحوزة الدينية في “بعلبك”، وهناك تابع حياته العلمية معلما وطالبا، إضافة إلى ممارسة العمل السياسي والمقاوم ضمن صفوف حركة “أمل” واستطاع الوصول إلى منصب مندوب الحركة في البقاع.

عام 1982 كان عاما مفصليا في حياته، ففي هذا العام وقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وواجهت “أمل” أزمة في صفوفها بين تيارين متعارضين، تيار يقوده نبيه بري، وكان يطالب بالانضمام إلى “جبهة الإنقاذ الوطني”، وتيار آخر متدين كان نصر الله والموسوي أحد أعضائه، وكان يعارض هذا الأمر، بسبب وجود الزعيم اللبناني المسيحي من حزب “الكتائب” بشير الجميل في الجبهة، وكانوا يعتبرون الجبهة تريد إيصال الجميل إلى رئاسة الجمهورية.

والجميّل هذا كان خطا أحمر لدى تيار المتدينين بسبب موالاته لـ”إسرائيل”، وبتفاقم النزاع انشق التيار المتدين عن تيار بري، وكانت البداية الأولى لظهور “حزب الله”.

عند ولادة “حزب الله” لم يكن نصر الله عضوا في القيادة، فهو لم يكن حينها قد تجاوز 22 من عمره، وكانت مسؤولياته الأولى تنحصر بتعبئة المقاومين وإنشاء الخلايا العسكرية.

بعد فترة تسلم منصب نائب مسؤول منطقة بيروت، واستمر بالصعود داخل سلم المسؤولية في الحزب، فتولى لاحقا مسؤولية منطقة بيروت، ثم استحدث بعد ذلك منصب المسؤول التنفيذي العام المكلف بتطبيق قرارات “مجلس الشورى”، فشغله نصر الله.‏

ولكن حسن نصر الله ما لبث أن غادر بيروت متجها إلى إيران لمتابعة دروسه الدينية في مدينة “قم”، ولكن التطورات الحاصلة على الساحة اللبنانية اضطرته إلى العودة مجددا إلى لبنان.

بعد عودته وجد نصر الله منصبه كمسؤول تنفيذي عام قد سلم لنعيم قاسم، وهكذا بقي نصر الله من دون منصب حتى انتخاب عباس الموسوي أمينا عاما، فعين قاسم نائبا له، وعاد حسن نصر الله لمسؤوليته السابقة.

في عام 1992 اغتال دولة الاحتلال أمين عام “حزب الله” عباس الموسوي، فانتخب نصر الله أمينا عاما للحزب، بالرغم من أن سنه كان صغيرا على تولي هذه المسؤولية، ولكن يبدو أن صفاته القيادية وتأثيره الكبير على صفوف وأوساط قواعد “حزب الله” أدت دورا مؤثرا في هذا الاتجاه.

 وفي ذلك العام، وبعد أشهر قليلة من اغتيال الموسوي، اختار الحزب الدخول إلى الصالون السياسي اللبناني، فشارك في الانتخابات النيابية التي جرت في ذلك العام، وحصد عددا من المقاعد النيابية عن محافظتي الجنوب والبقاع.

وفي عام 1997 فقد نصر الله ابنه البكر “هادي”، في مواجهات دارت بين مقاتلي الحزب وجيش العدو الإسرائيلي، في منطقة “الجبل الرفيع” جنوب لبنان.

نجاحات الحزب في تلك الفترة وضعته على قمة الشعبية في الشارع العربي، واستطاع الحزب بقيادة نصر الله تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي باستثناء “مزارع شبعا”، وذلك في عام 2000.

وتمكن في عام 2004 من تسجيل نجاح هام بتنظيم عملية أشرف عليها شخصيا تمثلت في تبادل جثث ثلاثة من عناصر جيش الاحتلال مقابل الإفراج عن حوالي 400 أسير لبناني وعربي معتقلين في السجون الإسرائيلية، إضافة إلى استعادة جثث لبنانيين وعرب، ارتقوا في مواجهات مع الإسرائيليين، من بينها جثة ابنه هادي، بعد وساطة طويلة قامت بها ألمانيا.

لكن واقع الحال بالنسبة لشعبية الحزب داخل لبنان تغير بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب البلاد، إذ بدأت تظهر على الساحة أصوات مطالبة بنزع سلاح الحزب وتسليمه إلى الدولة اللبنانية، لكن نصر الله رفض بشدة الضغوط الدولية التي تجسدت بالقرار رقم (1559) عام 2005 الذي طالب بسحب سلاح المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية في إشارة إلى “حزب الله”.

اعتبر عبر سنوات صعوده الذهبية من بين أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم الإسلامي، كما تصف العديد من المصادر نصر الله بأنه يتمتع بكاريزما قوية، وكانت خطبه الحماسية أيام الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان تستحوذ على اهتمام الشارع العربي، وتحديدا في حرب تموز/ يوليو عام 2006، فقد خرجت المظاهرات المؤيدة له آنذاك في لبنان وعدد من الدول العربية.

لكن هذا التأثير ما لبث أن تراجع بعد أن دخل الحزب طرفا أساسيا في الحرب الأهلية المسلحة بسوريا.

يعد نصر الله أحد قادة الشيعة في لبنان، ورمزا من رموز محور المقاومة، يقول عن ذلك “وصلنا إلى قناعة بأننا لا نستطيع الاعتماد على الدول العربية، ولا على الأمم المتحدة (…) الطريقة الوحيدة هي أن نحمل السلاح، ونقاتل قوات الاحتلال”، مضيفا “أنا ضد أي صلح مع إسرائيل. أنا لا أعترف حتى بوجود دولة اسمها إسرائيل”.

 تحت حكمه، أصبح حزب الله عنصرا فعالا في الحياة السياسية اللبنانية، ويشارك في مختلف الحكومات اللبنانية واللجان النيابية. رغم أن الحزب صنف كـ”منظمة إرهابية” من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى حليفة لها.

تمكن نصرالله من تجاوز أزمات تاريخية مثل الربيع العربي، والحرب الأهلية السورية، والأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان، وتراجع تمثيله في المجلس النيابي اللبناني بعد الانتخابات الأخيرة عام 2022.

لكنه استعاد مكانته عربيا بعد إسناده للمقاومة الفلسطينية بعد “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول /أكتوبر 2023، رغم أنه لم يكن مضطرا لذلك، لكنه رفض أن يترك غزة وحيدة، فأطلق صواريخه نحو العدو، ولم تفلح الضغوط جميعها التي مورست عليه في ثنيه عند إسناد الشعب الفلسطيني.

ربما يكون الفلسطينيون الأكثر حزنا عليه فهو يرمز للبطولة والتضحية والنخوة في نجدتهم، حين تركهم الجميع يواجهون مصيرهم أمام عصابة من القتلة.

وسيبقون يتذكرون خطابه قبل 20 عاما، وعقب ارتقاء الشهيد أحمــد ياسين، حين قال: “اعتبرونا نحن في حزب الله من أمينه العام إلى قادته ومجاهديه وكباره ونسائه وصغاره أعضاء في حركة حماس، واعملوا أننا بإذن سنفي وعدنا بهذا الالتزام والانتماء”.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى