مقالات ورأى

المعتصم الكيلاني يكتب : معاناة العائدين: مأساة السوريين العالقين بين الحدود والألغام

على الحدود السورية اللبنانية، وتحديداً عند معبر المصنع، تتكشف واحدة من أكثر المآسي الإنسانية الحادة في ظل الصراعات الدائرة في المنطقة. مئات العائلات السورية تجد نفسها عالقة في منطقة السوربين الحدودية،

حيث يسود الإهمال والتمييز وسط إجراءات قاسية فرضتها السلطات السورية. أولئك الذين فروا من لبنان هرباً من الحرب، لم يتوقعوا أن تكون العودة إلى وطنهم بهذه الصعوبة، وسط ظروف معيشية واقتصادية خانقة.

تفرض الحكومة السورية على كل مواطن سوري يرغب في العودة إلى بلاده دفع مبلغ قدره 100 دولار أمريكي، ويشترط أن يتم الدفع بالدولار حصراً. بالنسبة للعديد من العائلات السورية النازحة،

هذا المبلغ يمثل عقبة كبيرة. بعد أن استنفدت هذه العائلات مدخراتها وأرهقتها الحرب، يجد هؤلاء أنفسهم أمام خيار صعب؛ إما دفع هذا المبلغ غير المتاح لهم أو المخاطرة بعبور الحدود بطرق غير قانونية.

تمييز وتهميش السوريين العائدين

المثير للجدل أن الحكومة السورية تعفي اللبنانيين من هذا المبلغ، مما يخلق شعوراً بالتمييز والظلم بين السوريين. فالتمييز الواضح في التعامل بين المواطنين السوريين واللبنانيين يظهر عدم اكتراث الحكومة السورية بمعاناة شعبها،

بل ويعزز الشعور بأن النظام السوري يسعى وراء جمع الأموال بأي وسيلة كانت، حتى لو كان ذلك عبر استغلال العائدين من مواطنيه الذين لا يملكون سوى الفقر والمعاناة.

العائلات السورية التي لا تستطيع تحمل هذا المبلغ تُجبر على السير في مسارات غير ممهدة ووعرة عبر الحدود. هذه المناطق تشكل خطراً كبيراً على حياتهم، حيث تعبر العديد من العائلات الحدود سيراً على الأقدام في مناطق معروفة بوجود حقول ألغام.

في حال تم القبض على هؤلاء من قبل السلطات السورية، فهم يواجهون تهماً تتعلق بالدخول غير الشرعي، ما يعني تعميق معاناتهم بدل تخفيفها.

الانتهاكات القانونية على مستوى القانون الدولي

تصرفات الحكومة السورية لا تقف عند حدود الابتزاز المالي، بل تمثل انتهاكاً صارخاً للعديد من الاتفاقيات والقوانين الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وفقاً للقانون الدولي،

يعد حق العودة إلى الوطن من الحقوق الأساسية التي تكفلها العديد من الاتفاقيات الدولية. اتفاقية حقوق الإنسان تنص على أن “لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه.” فرض رسوم مالية على السوريين العائدين يشكل انتهاكاً لهذا الحق الأساسي.

إضافة إلى ذلك، فإن إجبار المواطنين على دفع مبالغ مالية كشرط للعودة يُعد انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان ويصنف تحت مظلة الابتزاز المالي. كما أن ترك العائدين في أوضاع خطيرة عند عبورهم المناطق الحدودية التي تحتوي على ألغام،

يمثل إخفاقاً في التزامات الدولة بحماية سلامة وأمن مواطنيها. فالقانون الدولي يلزم الدول بتأمين حدودها وضمان سلامة العابرين منها، وليس تعريضهم للخطر.

المأساة الإنسانية مستمرة

المشهد عند معبر المصنع، وما يصاحبه من ممارسات حكومية، يعكس واقعاً مريراً يتجاوز تحديات المال والأمن. يعود السوريون إلى وطنهم الذي دمرته الحرب على أمل العثور على الأمان والاستقرار، لكنهم يصطدمون بواقع أكثر قسوة.

الألغام التي تحاصر طرق العائدين ليست مجرد أدوات حربية، بل هي رمز لتفخيخ حياتهم ومستقبلهم. هؤلاء العائدون، الذين يعيشون بين خوف الألغام وقلق الاعتقال، لا يجدون الأمان الذي طالما حلموا به. بدلاً من ذلك، تتحول العودة إلى الوطن إلى رحلة محفوفة بالمخاطر والمآسي.

استغلال اقتصادي وسط معاناة إنسانية

الحكومة السورية تستغل هذه الظروف لتفرض ضغوطاً مالية على العائدين، وكأنها تسعى لتحصيل العملة الصعبة بأي وسيلة كانت، حتى على حساب حقوق وكرامة مواطنيها. هذا السلوك ليس مجرد تصرف غير أخلاقي،

بل يمثل استغلالاً اقتصادياً في وقت يعاني فيه السوريون من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ بلادهم. السياسة المتبعة تزيد من عبء المعاناة وتجعل من الوطن مكاناً غير مرحب به، بدلاً من أن يكون ملاذاً آمناً لأبنائه.

ما يحدث عند الحدود السورية اللبنانية هو جزء من مأساة إنسانية أكبر يعيشها الشعب السوري منذ أكثر من عقد من الزمان. العودة إلى الوطن، التي يجب أن تكون حقاً مكفولاً ومؤمناً لكل إنسان،

تحولت إلى رحلة محفوفة بالمخاطر والمآسي. أمام هذه التحديات، يصبح من الضروري أن يتحرك المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية للضغط على الحكومة السورية لوقف هذه الانتهاكات، والعمل على تأمين عودة آمنة وكريمة للسوريين.

فالعالم لا يمكنه أن يبقى صامتاً أمام هذه الانتهاكات، والتي تمثل خرقاً واضحاً للقوانين الدولية وتجاهلاً صارخاً لحقوق الإنسان. يجب أن يُسمع صوت هؤلاء العائدين، وأن يتم ضمان حقهم في العودة بأمان دون استغلال أو ابتزاز.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى