مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: المال السياسي سرطان ينخر في جسد الديمقراطية

تعد قضية “المال السياسي” واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه الأحزاب السياسية في مصر خاصة والنظم السياسية في العالم المعاصر بصفة عامة، بل إنها قد تكون السرطان الذي ينهش في جسد الديمقراطيات العالمية بشكل صامت، ولكن آثاره مدمرة.

فالمال السياسي ليس مجرد تمويل للحملات الانتخابية أو دعم للأحزاب السياسية كما يدعي البعض؛ إنه أداة من أدوات السيطرة والاستغلال التي تُسَخِّر أموال القلة للتحكم في مصير الكثرة.

ليس من المبالغة القول إن المال السياسي هو وسيلة لشراء القرارات السياسية واستغلال النفوذ لتحقيق مصالح ضيقة على حساب مصلحة الشعوب.

لقد أصبح هذا النوع من المال هو وقود الحملات السياسية التي باتت تتجاوز حدود الأخلاق والمعايير الديمقراطية.

والحقيقة المرة أن هذا المال لا يخدم سوى مصالح فئة معينة من الطبقات الاقتصادية القوية، التي تستخدم نفوذها المالي للتأثير على صنع القرار في الدولة، وبالتالي الاستحواذ على السلطة بشكل غير مباشر.

ما الذي يدفع إلى انتشار هذه الظاهرة الخبيثة؟ بكل وضوح، المال السياسي هو الأداة الأقوى لبناء شبكات علاقات سياسية ونفوذ لا يمكن تحقيقه بالوسائل الديمقراطية التقليدية.

وفي واقع الأمر، يُسهم المال السياسي في تعزيز الفساد وتمكين الأثرياء من التحكم في مسار الانتخابات من خلال تمويل حملات ضخمة وشراء التأييد.

وما يزيد الطين بلة هو استغلال الإعلام كأداة لتلميع صور السياسيين المدعومين مالياً، مما يجعل الجمهور أسيرًا لصور زائفة وأوهامٍ دعائية تُفَضِّل من يدفع أكثر على من يخدم حقًا.

هذه الأموال تُسْتَخدم أيضًا لتوسيع النفوذ في الدوائر التشريعية، حيث يُمكّن الدعم المالي من السيطرة على الأعضاء المنتخبين، فيصبح هؤلاء النواب أدوات بيد من يملك المال، يفعلون ما يُمْلَى عليهم لتحقيق مصالح الداعمين الماليين وليس مصالح من انتخبهم.

وهنا ينقلب مفهوم التمثيل الشعبي رأسًا على عقب، فيصبح الولاء للمال بدلاً من الولاء للشعب، والتشريع لأصحاب المال بدلاً من تشريع يحقق العدالة والمساواة.

وفي ظل هذه الأوضاع، يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن لمجتمع أن يحقق العدالة والمساواة في ظل هذا الاستغلال الفاضح للمال السياسي؟ إن الجواب الواضح والصريح هو أن المال السياسي يُمثل تهديدًا حقيقيًا لنزاهة العملية السياسية، فهو يخلق نظامًا من النفوذ والتأثير يتناقض مع المبادئ الديمقراطية الأساسية.

وفي الديمقراطية الحقيقية، يجب أن يكون لكل مواطن صوتٌ متساوٍ، ولكن عندما يدخل المال السياسي على الخط، يصبح الصوت الأعلى هو صوت المال، وتصبح إرادة القلة هي التي تُسيِّر المجتمعات.ليس فقط ذلك، بل إن المال السياسي يُحوِّل الانتخابات إلى ساحة معركة غير عادلة، حيث تتفاوت الفرص بين من يملكون المال ومن لا يملكونه.

الحملة الانتخابية التي تعتمد على المال السياسي تصبح مجرّد مزاد علني، حيث يُباع التأييد لمن يملك القدرة على الإنفاق أكثر.

وهذا بدوره يؤدي إلى إقصاء المرشحين المستقلين أو الذين يمثلون مصالح الطبقات الفقيرة، فتصبح الديمقراطية واجهة فقط، تُخفي وراءها تحكم الأثرياء في السلطة.

إلى جانب ذلك، فإن غياب الشفافية فيما يتعلق بأموال الحملات السياسية يزيد الوضع سوءًا. إن الأموال التي تُصرف لدعم السياسيين غالبًا ما تأتي من مصادر خفية وغير معروفة، وهذا يفتح المجال أمام استغلالها لتحقيق مصالح غير مشروعة.

لا يمكن لمجتمع يسعى إلى العدالة والاستقامة أن يغض الطرف عن هذه الأموال الغامضة التي تتدفق في الظلام لتُسيِّر مسار العملية السياسية.

هنا، لابد من مواجهة صارمة لهذه الظاهرة، فالقوانين وحدها لا تكفي. هناك حاجة ملحة إلى اتخاذ إجراءات صارمة لضمان الشفافية والمساءلة في العملية السياسية.

ينبغي أن تُفرض قوانين صارمة تنظم طرق جمع وإنفاق الأموال السياسية، مع ضرورة فرض عقوبات مشددة على من يثبت تورطهم في استخدام المال للتأثير على القرارات السياسية.

ولا يمكن الحديث عن مكافحة المال السياسي دون التطرق إلى الدور الحاسم الذي يجب أن يلعبه المجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة. ينبغي على المجتمع أن يكون أكثر وعيًا وتفاعلًا في مراقبة العملية السياسية وكشف أي محاولات لاستغلال المال.

على وسائل الإعلام أن تتحرر من قيود المال السياسي وأن تفضح هؤلاء السياسيين الذين يبيعون ضمائرهم لمن يدفع أكثر.

وعلى الجمهور أن يدرك أن دعم مثل هؤلاء السياسيين لا يجلب سوى الفساد والمزيد من التدهور في القيم الديمقراطية.

والمال السياسي هو سلاح ذو حدين؛ فهو من جهة يتيح تمويل الحملات السياسية، ولكن من جهة أخرى، يستخدمه البعض لشراء الولاءات والتحكم في مصير الشعوب.

إن التغاضي عن هذا النوع من المال يعني أننا نسمح بتقويض أسس الديمقراطية الحقيقية، ونفسح المجال أمام استبداد جديد، استبداد لا يستخدم الدبابات أو الأسلحة، بل يستخدم المال لإخضاع الشعوب والسيطرة على مستقبلها.

إذا أردنا حقًا بناء ديمقراطيات قوية ونزيهة، فلا بد أن نبدأ بالقضاء على المال السياسي، ووضع حد لهذا النفوذ الخبيث الذي يُهَدد بتدمير كل ما تمثله الديمقراطية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى