مصرمقالات ورأى

د. أيمن نور يكتب: المتهم المتجول.. أنا وعامل التحويلة

كلما صدر حكم قضائي ضد عامل التحويلة في حادث من حوادث القطارات، لتهدئة الناس وامتصاص الغضب بعد كل كارثة في السكك الحديدية، أتذكر مقولة أستاذي الكبير مصطفى أمين، الذي وصف أحد رؤساء تحرير الصحف قبل عام 1952 بأنه كان “رئيس تحرير الحبس”.

هو كبش الفداء الذي يعين ليس ليمارس صلاحياته كرئيس تحرير، بل ليذهب إلى المحاكم لمواجهة القضايا التي تُرفع على الصحيفة، ويدخل السجن نيابة عنها إذا ما صدرت أحكام بالسجن.

وعندما أسترجع صفحات من مذكراتي الشخصية في العقدين الأخيرين، أجد نفسي كعامل التحويلة في قطار الحياة السياسية. ربما أتفهم هذا قبل ثورة يناير، فالنظام الذي كان يتسامح مع من يعارضه لم يكن لديه أي تسامح مع من ينافسه.

أصبح لدي شرف لا أرغب فيه ولا أستحقه، وهو أنني “مُتهم متجول” في أوراق معظم القضايا السياسية – بلا سند أو دليل – سوى خيال محرري المحاضر الذين يبحثون عن شماعة مثلى لتعليق اتهامات مطاطية درامية – أحيانًا – وكوميدية في معظم الأحيان. وكأنني القطعة الناقصة لحل كل لغز سياسي معقد.

ورغم تلك الضيافة الكريمة في مذكرات أمن الدولة والأمن الوطني، غالبًا ما ينتهي الأمر في حدود الضيافة السريعة لزوم الاستخدام الإعلامي، ويتم حذف اسمي لاحقًا من مذكرات التحريات الأخيرة أو من قرارات الاتهام التي تقدم من النيابة العامة المختصة للمحكمة.

ربما يكون عامل التحويلة في السكك الحديدية أسوأ مني حظًا، لأنه غالبًا ما ينتهي به الأمر إلى قضاء سنوات طويلة في سجن ظالم بسبب جريمة لم يكن ضيفًا عليها.

عامل التحويلة ليس هو ذلك الرجل الذي يقود مسار القطار بيدين عاريتين، وليس هو من يحدد أو يُطلق سرعة القيادة، ولا هو المسئول عن الصيانة. هو فقط المنفي في غرفة معزولة، لكنه دائمًا يصبح الهدف الأول والأسهل للاتهامات في كل مأساة.

يُحكم على عامل التحويلة في كل واحدة من تلك المآسي، التي تشهدها سكك حديد مصر، وكأن الكوارث وُجدت لتوكل إليه وحده، بينما يختفي كل مرة كبار المسؤولين، أصحاب القرار،

في الظلال وكأنهم لم يكونوا يومًا جزءًا من القصة. يحمل عامل التحويلة وحده وزر الحوادث، وكأنه هو المتسبب في كل ما يحدث، رغم أنه الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من المسؤوليات تشمل غياب الصيانة، وتهالك السكك الحديدية، والإهمال الذي يكتنف قطاع النقل.

أما أنا، فقد عشت ما يعاني منه عامل التحويلة، لكن في ساحة السياسة والإعلام. فمنذ أن كنت مرشحًا لرئاسة الجمهورية في مواجهة مبارك عام 2005، أواجه سيلًا من الاتهامات التي تُضحكني أحيانًا، وتُبكيني أحيانًا أخرى.

فما أسوأ أن أكون في نظر البعض مجرد شخصية تُنسج حولها الشائعات، وكأن الحقيقة ليست أكثر وضوحًا من ضوء الشمس! لن أتناول قضية توكيلات الحزب التي اعتقلت بسببها لخمس سنوات أثناء الانتخابات الرئاسية،

رغم كونها واحدة من أكثر القضايا السياسية المفضوحة تلفيقًا، مما دفع المجلس العسكري إلى إسقاط التهمة وما لحقها من عقوبات تكميلية، وكأنها لم تكن في مارس 2012.

لكن هذا لم يمنع أن يصبح أيمن نور هو “المتهم المتجول” في كل القضايا، وضيفًا دائمًا على كل مذكرات تحريات مباحث أمن الدولة أو الأمن الوطني. وتكريمًا لهم لي، للعشرة الطويلة منذ ثمانينات القرن الماضي،

يضعون اسمي دائمًا في مذكرات تحرياتهم كمتهم أول، وغالبًا لا تجد النيابة العامة دليلاً واحدًا أو شبهه يمكن الاستناد عليه لوضع اسمي في القضية أو قرار الاتهام.

لكن حرص بعضهم على الزج باسمي جعلني مرشحًا محتملاً لكافة القضايا، ومتهمًا متجولًا في مذكرات التحريات، في شكل من أشكال الاغتيال بلا دم – الاغتيال المعنوي.

دون أن يقول لهم أحد: “كفى هزلاً في موضع الجد”. ولا أحد من العقلاء يملك الإجابة على السؤال المنطقي: إلى متى سيظل أيمن نور عامل التحويلة؟

وأملك في هذا السياق الكثير من الأمثلة المعفّرة بتراب الواقع، ولكن سأكتفي بنماذج أخيرة منها: أتذكر جيدًا كيف صدرت مذكرات تحريات من رئيس مباحث أمن الدولة أثناء ثورة يناير، واحتلت صفحتها الأولى التي نشرت في صدر صحيفة *المصري اليوم، بالعنوان التالي: “أيمن نور والإخوان هم الذين قتلوا المتظاهرين والجنود”.

مثال آخر: استيقظت ذات صباح لأجد نفسي المتهم الأول في أحداث مجلس الوزراء، رغم أنني لم أشارك فيها، ولم أسمع إلا من التلفزيون، فقد كنت طريح الفراش، عاجزًا عن الحركة بسبب نزلة شعبية حادة.

من سريري! توجهت إلى قاضي التحقيق، الذي كان يعرف تمامًا أنني لا صلة لي بهذه القضية من قريب أو بعيد، ومع ذلك، أصدر قرارًا بمنعي من السفر استمر لعامين، في ظلم يثير الضحك والشفقة معًا.

تستمر الكوميديا السوداء عندما تصدر مذكرة الأمن الوطني في قضية “الأمل”، لأجد نفسي المتهم الأول مجددًا في قضية لا أعرف عنها إلا اسمها! صحيح أنني لم أُقدم للمحاكمة في أي من تلك القضايا،

برغم تواجدي بالخارج لمدة 11 عامًا، يبدو أنني أُستدعى من ذاكرة بعضهم لأكون جزءًا من سردية إعلامية لا تخدم حتى النظام.

مرة أخرى، أوجه سؤالًا لأصحاب القرار: أليس لديهم غيري؟

ثم تأتي قضية المرشح الرئاسي السابق، أحمد الطنطاوي، لأجد اسمي يتصدر مذكرات التحريات كمتهم أول، رغم أنني لا أملك أي صلة بالقضية أو أطرافها. ومع ذلك، يتم التحفظ على منزلي بالقاهرة ومنزل أبنائي، – وللان – رغم عدم إدراج اسمي في القضية التي قدمت للقضاء وصدر فيها الأحكام المعروفة.

وها أنا – وللان – مدرج في رأس قائمة الإرهاب، تضم 80 من زملائي الليبراليين في حزب غد الثورة الليبرالي المصري وبعضهم من الأقباط،

ومعظمهم إعلاميون وجميعهم يقيمون منذ عشرات السنين خارج مصر! أليس من العجيب أن تظل هذه التشوهات غصة في حلوق وقلوب الجميع دون سبب واحد أو سند منطقي؟

إلى متى سيستمر هذا العبث؟ أم أن هناك أفقًا لنهاية هذه الكوابيس؟

واضح أننا جميعًا مصنفين في خانة عمال التحويلة.

براءة عامل التحويله في صورة المختلفة لا ينبغي أن تنتظر تعديل قانون الأجراءات الجنائية فهي لا تحتاج اكثر من قرار سياسي
يجب أن يتصدى (العقلاء )لدورهم في رد وحماية حقوق وحريات الناس وضمان امنهم النفسي وسلامتهم.فهل سيكون لدينا الجرأة للاعتراف بذلك، أم سنستمر في الإبقاء على سيادة مدرسه صناعة الشماعات؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى